حوارات كثيرة خُضْتّها خلال نصف قرن مضى من الزمن مع كبريات الشخصيات الغربية والأميركية، لم تكن الصدفة هي الراعي الرسمي لتلك الحوارات بل كنت دائماً العضو المؤسس أو العضو الفاعل أو الرئيس الفخري لهذا المؤتمر أو ذاك، وكان لي شرف التوجّه دائماً بخطابٍ هادفٍ، والتوجيه أحياناً بأسلوب دمثٍ لطيفٍ لتلافي الكثير من الاحتدام في الرأي ووجهات النظر التي لا تزال تتضارب بين شرقٍ وغرب.
تستوقفني الذاكرة على مفردةٍ كانت القاسم المُشترك لجميع من حاورتهم وناورتهم بمنطقٍ وعقلٍ وموضوعيّةٍ حيث كان للعلم والثقافة كل الفضل فيما أكرمني ربّي مما ذكرتُ آنفاً من ديناميّة الحوار ومرونة النقاش..
المهم في هذا كلّه أنّ الكلمة التي لا يزال صداها يتردّد في ذهني تِباعاً كصيغة لمخاطبتي المباشرة دائماً والتي تتلخّص وتُختصَر بمقولة: “أنتم العرب” في كل مقام ومقال، وهنا أتلقّف هذه المفردة بكامل كياني لأردّد بعزّة وفخر نعم “نحن العرب” وبمزيد من الاعتزاز أجل “نحن العرب”، نحن خليط متجانس من اللغة والجغرافيا والمصير والحضارات.
فأحفاد الفراعنة الذين صمدت حضارتهم في مصر العروبة يفاخرون بعروبتهم، وأحفاد الآشوريين والبابليين في العراق الخصيب يفاخرون بعروبتهم، وأحفاد الآراميين والسومريين والتدمريين في سوريا يفاخرون بعروبتهم، وأحفاد الكنعانيين في فلسطين يفاخرون بعروبتهم، وأحفاد الفينقيين في لبنان الجميل وتونس الخضراء يفاخرون بعروبتهم، وأحفاد الرسول الكريم في المملكة العربيّة السعوديّة ودول الخليج العربي يفاخرون بعروبتهم، وأحفاد الآدوميّين والعمونيّين والمؤابيّين في المملكة الأردنيّة الهاشميّة يفاخرون بعروبتهم، كذلك الأشقّاء في المغرب العربي الأبيّ والجزائر الحرّ البطل رغم بعدهم الجغرافي من بلاد العرب وقربهم من الدول الأوربيّة وخاصّة الإيطالية والإسبانية وتحدّثهم للغة الفرنسية بطلاقة لم يعقهم من الشعور بالانتماء والاعتزاز والفخر لعروبتهم النبيلة، أيضاً اليمن أرض الحضارات المتنوّعة التي يعود أصلها للحضارة “الصهيديّة” يفاخر أحفادها بعروبتهم العميقة، حتى في جزر القمر يفاخر شعبها الكريم بانتمائهم العربي.. ولو أردتُ تناول كل حضارة من الحضارات المذكورة لكل دولة عربيّة على حِدَه، لما انتهيت من الاسترسال والحديث وسأحتاج قطعاً لمئات الصفحات، لهذا أكتفي بالقول بل الفخر بل الاعتزاز أننا جميعا على اختلاف أصول وجذور التاريخ العريق الذي خطّ سطوره في مرتبة الشرف وسجّل أسمى آيات الحضارة، وكرّسها حجراً وبشراً وقصصاً وعبرَ وحكايات، صمدتْ جميعها بملامحها وآثارها حتى يومنا هذا..
نمرّ عليها مرور الأبناء البررة، نستنشق عبق التاريخ ومكنون الأزمنة، لا غربة تعترينا أمام الأوابد، وأمام الصروح القديمة، وأمام الآثار الراسخة خلف أضلاع التاريخ، تنبض بحيويّة وحماسة وحميميّة، كلما اقترب منها إنسان عَرَف قيمتها الكبرى، وحفلَ بها باكتراثٍ جميل، واهتمام نبيل، وهي محط أنظار الجميع من أقصى القارّات وأدناها، على اختلاف شعوبها وثقافاتها.. الجميع ينظر إليها نظرة موحّدة ويصفنا بصفاتٍ متماثلة ويخاطبنا بلقبٍ جميل وعزيز جداً على كياني وروحي ووجداني ويعزز قوتي وحضوري عندما أعتمد صيغة الجمع وأقول نعم نحن العرب، وليس أنا العربي وحسب..
لا أريد أن أتطرّق إلى التفاوت الرهيب في واقع الحال العربي، ولا أريد أن أتوقّف عند الإخفاقات السياسيّة المريعة التي أوصلت الأمّة إلى مآلٍ يُرثى له، ولا أريد أن أتطرّق إلى الحواجز التي تعمّق الهوّة بين بلد عربي وآخر.. فقط أريد أن أستعيد تلك الحماسة التي نادت بها القوميّة العربية، أريد أن أردد بكل ثقة نشيد العروبة الخالد / بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان ومن نجدٍ إلى يمن إلى مصر فتطوان../ .. أريد أن أشدو مع من غنّى / وطني حبيبي .. وطني الأكبر يوم ورا يوم أمجاده بتكبر بانتصاراته المالية حياته وطني بيكبر وبيتعمّر وطني وطني .. / أريد أن أترنّم بنشيد موطني موطني الجلال والجمال والبهاء والكمال في رباك .. / وغيرها الكثير من العظمة في الشعور الجمعي لمفهوميْ الوطن والانتماء..
القومية العربيّة ينبوع.. ثرّ بالشعور والعاطفة والوجدان والحسّ والتناغم، واللهفة، والذاكرة..
القومية العربية بئر عميق بالجذور، بالتضحيات، بالبطولات، بالقصص، بالعِبَر، بالمواقف، بالحكايات، بالأثر والإيثار والثروات..
القوميّة العربية جبل شاهق، صامد، صلد مهما تعاقب عليه من مِحَن وكوارث وغزاوات، لا ينحني، ولا ينكسر، ولا يزول..
نحن العرب أبناء الضاد.. ربّما ابتعدنا عن قوميتنا قليلاً، شغلتنا طموحاتنا ومساعينا بشكلٍ أو بآخر، لكن لا بد عودتنا الحميدة إلى تراب هذا الوطن الشاسع الكبير، هل يعقل أن نقزّم وطننا الممتد من المحيط إلى الخليج ونكتفي بشرذمة العروبة، السماء مفتوحة ولا حواجز في سمائنا العربية ولا حدود، فلنستعد أرضاً تشبهها، بصرف النظر عما زرعته اتفاقية “سايكس بيكو” من أطر وحواجز وحدود، العالم كله اليوم أصبح قرية واحدة بحكم الفضاء المفتوح، والتواصل متاح بين الجميع وللجميع، فلماذا لم نعد نسمع نشطاء على صفحات التواصل ينادون بالقومية العربية، لماذا أوقفنا هذا الجيل بما توارثناه من السلف الذين أسسوا واجتهدوا لتكريس القومية العربيّة، كيف جفّ بئر العروبة قبل أن نتطهّر من أحزاننا وأوجاعنا به، كيف غارت أفكار نبع العروبة قبل أن نرتوي منها، كيف أدرنا ظهرنا لجبل العروبة ونسينا أن نستد إليه.. لا يهمّ العثور على الجواب، المهم أن نستعيد وعينا العربي، وأن نسترد زخمنا العربي، وأن نوطّد اللُحْمَة العربيّة، العواصف المُرتقبة أكثر من كثيرة ووقعها كارثي على الشعوب والأوطان، وطالما أنّ العروبة مشتّتة فسيسهل هضمها، نحن أقوياء ببعضنا البعض وأشداء مع بعضنا البعض، وأيّ استهتار في تمتين وِحدَة الصفّ العربي، هو تهديد مُباشر لكل واحد فينا، وفرصة سانحة لانتهاك كل كيان على حِدَه.
طريق العروبة ربما ليس مفتوحاً كما ينبغي، لكنه ممتد كما نحلم ونأمل ونتمى وأكثر، ببساطة بوسعنا أن نوفّر للطلبة مقاعد دراسيّة بمنحٍ متبادلة ولدينا في العالم العربي أرقى الجامعات، وبوسعنا أن نؤمّن للبيت العربي كامل متطلباته بتبادل المحاصيل الزراعية والإنتاجات الصناعية فنعزز التجارة ونعيد للاقتصاد روابطه القوية وهو يشهد تردّي غير مسبوق على جميع الأصعدة، على الحكومات العربية أن تضع الخطط البنّاءة بفتح أبواب “السياحة ” بين الدول العربية بالدرجة الأولى، وفتح أبواب العمل كما السابق باستعارة الكفاءات العلمية من بلد شقيق إلى آخر بدلاً من تغريب الأدمغة العربية وتهجيرها..
الحديث لإنعاش القوميّة العربيّة طويل وطويل جداً، وقارىء اليوم على عجلة من أمره في كل شيء، وخاصّة أنه أصبح أسير الخبر العاجل بين إشاعة وتزييف ومستجدات، ناهيك عن أغلال الصورة التي نسجت شباكها في كل حدبٍ وصوب.
لهذا أعلم أنّ هذا المقال الطويل لن يتجشّهم عناء قراءته إلّا القلّة من المؤمنين بالقومية العربيّة ودورهم أن يمدوا اليد لنتساعد جميعاً في إحياء القومية العربية في هذا الوطن الجميل وإنسانه الرائع وأرضه الطيّبة وسمائه العالية التي تليق بكل جبين أبيّ يأبى أن ينحني للسقوف الخفيضة مهما تمادت.