القى العلامة السيد علي فضل الله كلمة في الندوة الثقافية التكريمية التي أقامتها وزارة الثقافة برعاية وزير الثقافة القاضي محمد وسام المرتضى في الذكرى السنوية الأولى لرحيل الدكتور وجيه فانوس وذلك في قاعة المكتبة الوطنية في الصنائع بحضور حشد من الفاعليات الدينية والثقافية والأكاديمية والتربوية والاجتماعية غصت بهم القاعة وجاء فيها: عام مضى على غيابه ولا يزال الدكتور وجيه فانوس حاضراً في القلوب والعقول والوجدان فأمثاله لا يغيبون، هو من هؤلاء الذين وعوا أن الحياة ساحتهم وعليهم أن يُجذروا وجودهم فيها، أن لا يغيبوا عنها إن رحلت عنها أجسادهم وذلك من خلال ما يتركون من حضورهم فكراً أو علماً أو أثراً طيباً في قلوب الناس وفي حياتهم…
ولهذا لم نأت اليوم بعد مرور عام على رحيله لنكتفي بأن نستعيد مشاعر الحزن والألم على فراق الدكتور وجيه بعدما غادرنا سريعاً وهو في عز حيويته وعطائه وتألقه أو أن نعبر عن الإحساس بالخسارة الكبيرة لفقده، لأننا بغيابه خسرنا شخصية نادرة في مزاياها في موسوعيتها وغزارة إنتاجها وحضورها الفاعل في الميدان الثقافي والعملي، في صولاته وجولاته في مواجهة كل الحملات المتواصلة التي تمس ثوابتنا الوطنية والعروبية والإسلامية…
لقد كان الدكتور وجيه مجبولاً بحب هذا الوطن، وكان يراه قيمة كبيرة وكان ينظر إليه كرسالة في هذا العالم، وأكثر ما كان يحزنه أن تتحول الأديان والمذاهب إلى طوائف ومذاهب فارغة من القيم لتصبح أداة من أدوات النزاعات تستحضر لأجل إذكاء نارها، كان لا يريد ان يكون الانتماء إلى الطوائف على حساب الانتماء للوطن بل لحسابه ولحساب الدفاع عنه ولذلك كانت عناوين المؤتمرات التي عقدناها سوياً تركز على ضرورة الانتماء عميقاً إلى هذا الوطن، واكتشاف السبل التي نربي من خلالها هذا الجيل على هذا الانتماء سواء من خلال المدارس أو الجامعات أو النوادي والجمعيات وكان دوره في ساحة الحوار بين الأديان والمذاهب والثقافات في هذا البلد، يندرج في إطار هذه الوجهة…
ففي هذا الميدان كانت له رؤيته المتميزة للحوار، فهو لم يكن مع أي حوار، بل كان يسعى إلى الحوار الجاد والموضوعي لا حوار المجاملة والديكور الذي اعتدناه في هذا البلد وفي كثير من الحوارات في هذا العالم، كان يرى أن الحوار الحقيقي هو الذي توضع فيه كل الأمور على بساط البحث والذي ينطلق من إرادة جدية لدى الساعين إليه، معتبراً أن صدقية أي حوار ومعيار النجاح فيه يتحققان عندما يتم تركيز النقاش على الهواجس والمخاوف والانقسامات التي يُراد لها أن تكون حواجز بين مكونات هذا الوطن، ثم على مدى التخفيف منها أو إزالتها، وهو لم يألو جهدا في سبيل إنجاح مثل هذا النوع من الحوار والذي من خلاله نتمكن من تقريب المسافات ونزع الألغام والعراقيل التي تنتصب أمام معالجة الأزمة وترسيخ الوحدة الوطنية وبناء دولة المواطنة…
لقد كان الدكتور وجيه مؤمنا بدينه وملتزما بمذهبه، ولكن ذلك لم يمنعه من مد جسور التواصل مع الاخرين بل كان يرى ان إيمانه يدفعه إلى هذا التواصل، فهو كان يؤمن بالدوائر المفتوحة لا المغلقة، وهو كذلك رفض كل فكرة تتعنون بعنوان الدين، في الوقت الذي تدعو لنسف الجسور وإلى تكفير الآخرـ وقد وقف في وجه كل دعوات التعصب والانغلاق بين أتباع الأديان منطلقاً من فهم عميق لدينه وللرسالات السماوية التي جاءت رحمة للعالمين ولإعمار الأوطان وتعزيز التواصل بين مكوناتها وإقامة العدالة.
لذا تراه كان دوماً عنواناً للتلاقي، يعطي من نفسه وفكره وجهده بكل ما يرتقي بالطوائف من العصبيات إلى الانفتاح ومن الفئويات إلى رحاب الوطن، وبذلك نفهم كيف أعطى الجميع وشارك الجميع في فكره وعلمه وقدراته على صعيد بناء الجامعة الوطنية وتطويرها أو على صعيد تعزيز منطق الحوار أو على صعيد تطوير أعمال الخير أو على صعيد تقديم الإسلام بصورة نقية، لذا لم يكن غريباً أن نراه من المؤسسين لمجلس أصدقاء جمعية المبرات الخيرية ومديراً للمركز الثقافي الإسلامي وعضواً بارزاً في أكاديمية الإنسان للتلاقي والحوار وركناً أساسياً في ملتقى الأديان والثقافات وفي الجامعة اللبنانية وفي الجامعة الإسلامية وفي منبر العمل الوطني…
لذلك نجدد القول في ذكراك أنك لم تغب عنا، ما زلت حاضراً من خلال عائلتك التي ربيتها على كل هذا الفكر الإنساني العميق، وعلى هذه القيم الأخلاقية والإيمانية والوطنية، وحملتها أمانة الحفاظ على هذا التراث الغني، ونحن على ثقة أنها سوف تواصل مسيرتك النبيلة وستكون وفية لك في ما حملته من فكر وعشته من أخلاق، فهنيئاً لهاً…
أيها الراحل العزيز ستبقى حاضراً في قلبي وفي قلوب أخوانك في جمعية المبرات الخيرية وملتقى الأديان والثقافات ومنسقية السلم الأهلي وستبقى حاضراً في قلوب كل الذين عرفوك في كل موقع للحوار والتواصل والتلاقي والعدل في مواجهة الظلم والاستبداد والانقسامات والفساد والانحراف وكل ساحة يبذل فيها الخير للإنسان كل الإنسان.
كل الشكر لمنظمي هذا اللقاء الذي اتاح لي الفرصة للتعبير في هذه الدقائق القليلة عن مزايا هذا الرجل الاستثنائي الذي افتقده الوطن.