يصادف الأول من شهر آب، مرور السنة الأولى لتسلّم الدكتور وسيم منصوري موقع ومسؤوليات حاكم مصرف لبنان (بالإنابة).
وقد خصّت “الاقتصاد والأعمال” المناسبة، بما يلزم مهنيا من متابعة وجردة حساب أجرتها عبر جلسات متعدّدة مع منصوري، ومن خلال قراءات تحليلية خاصة مع معنيين في القطاع المالي. مع التركيز على المضاهاة بين النتائج المحقّقة والتزامات “الحاكم” المعلنة في اليوم الأول لسريان مفعول توقيعه على رأس السلطة النقدية وفقا لأحكام قانون النقد والتسليف، كأساس نموذجي لقياسات التطابق بمعايير الموضوعية والشفافية.
واستوجبت القراءة الموضوعية، الاستدراك لمفاعيل الحدث الطارئ والاستثنائي الذي خيّم بيومياته ومخاطره على 10 أشهر بكاملها من السنة الأولى، مما فرض تلقائيا ضم التأثيرات الميدانية والتداعيات المرتقبة لتمدّد حرب غزّة إلى الجنوب اللبناني، وما تفرزه من تعميق حاد لحال “عدم اليقين” المتعثرة سياسيا في أساسها، ومن لجم صريح لتصويب مسار الاقتصاد، بقطاعاته كافة، من واقع الانكماش المستمر إلى خطة “الانقاذ” الموعود.
يختصر منصوري الهدف المنشود بعبارة “اعادة بناء الثقة”. ذلك بدءا وبالضرورة البديهية من ترميم كيان الدولة وتعزيز حضورها اللازم وغير القابل للتعويض او التغطية في الميادين السيادية، والذي يستلزم ارساء توافق وطني عريض ينشد بلوغ محطة الهيكلة السليمة والمنتظمة للمؤسسات، واستتباعا تحسين الأداء في إدارة المسؤوليات والأدوار المناطة بسلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، وبما يكفل حتما انتاج بيئة مناسبة للشروع بالاحتواء المنهجي لحصيلة رحلة الانهيار التي تشرف على ختم عامها الخامس.
ورغم قناعته الراسخة بترتيب الأولويات التي تتصدرها منظومة ادارة الدولة، بادر الحاكم (بالإنابة) مبكرا الى تحديد النقاط الأساسية الآيلة لانطلاقة سليمة ومتجدّدة لسلطة النقد، مبينا بوضوح اعتماده لقاعدة “فريق العمل” بمشاركة نوابه، وكاشفا بشفافية لقنوات إدارة المؤسسة بهيكلها الاداري بمنأى عن المحاصصات والمساومات، وبأدوارها التنفيذية وشبكة تعاملاتها مع السلطات والمؤسسات ومكونات القطاع المالي.
وثمة “بصمة” يحرص منصوري على اشهار خطوطها ومنع تشويهها. يفصح بثقة، أنه يدير فترة انتقالية ولن يسلّم حكما الحاكم المقبل عند تعيينه، ما لقيه من مشكلات بنيوية وانحرافات إدارية ومالية وفي إدارة السلطة النقدية. وما يتم انجازه يطابق تماما ما التزم به فريق عمله، واشترط مسبقا تيسيره من قبل السلطات المعنية للقبول بالمسؤولية. باختصار، “هذه مؤسسة تستحق ثقة المواطن اللبناني، وكما نحن بحاجة إلى ثقة المواطن، كذلك فإن المواطن بحاجة إلى أن يثق بالمؤسسة”.
لذا، ومن اليوم الأول، يكرّر الحاكم (بالإنابة) في جلسات تجمعه مع زواره، ومع مصرفيين ومسؤولين ماليين معنييّن، “نحن نعمل ونتعاون كفريق عمل على ترجمة قناعاتنا وتحصينها بتوافق كبير ومستمر بيننا. برمجة الألويات اقتضت الشروع فورا بفتح خطوط اصلاحية متوازية ترتكز إلى اصلاح هيكلي وبنيوي في المؤسسة، كأساس شرطي لتعظيم الانتاجية السليمة في كل الأقسام والدوائر، وكمدخل وحيد لاستعادة المهام الأصلية”.
ومن دون الحاجة إلى التصريح الموثق، يعتزّ بحقيقة قطع أشواط مهمة وتسجيل تقدم كبير في عملية الاصلاح الاداري داخل البنك المركزي، وبالاستناد إلى التطبيق الصارم لمبدأ الثواب والعقاب بالتطابق مع لوائح النظام الداخلي. وهذا ما مكّن قيادة المؤسسة من الشّروع المبكر في اعادة هيكلة البيانات المالية للميزانية وبالتطبيق الصارم أيضا للمعايير المحاسبية الدولية، وبالارتكاز إلى توحيد سعر الصرف في كل البنود. وهي عملية تلاقي تأييد وثناء المؤسسات المالية الدولية، ومستمرة بالتعديل والتحديث حتى بلوغ هدف الشفافية المطلقة.
وليس سرا، أن المضي بالإصلاحات البنيوية الداخلية، ومعها التخلي الطوعي والمتدرج عن مهام ووظائف لا تقع ضمن مسؤوليات البنك المركزي، ساهما برفع درجة الكفاءة لجمع الجهود الوظيفية والخبرات ضمن مسارات تخدم الأهداف الموحدة. ما للبنك المركزي فهو له، وما للسلطات في الدولة فهو يقع على عاتقها، بدءا من خطة الانقاذ والتعافي ومرورا بمشاريع القوانين، وليس انتهاء بتولي القضاء حصرا المحاسبة والتصدي للشبهات.
باختصار، يؤكد منصوري ويكرّر، نمد أيدينا للجميع ونضع بتصرفهم كل إمكاناتنا لمعالجة المشكلات القائمة. وبالمثل نحدّد بوضوح خطوط إدارة القطاع المالي وشبكته المصرفية والمالية وشركات التحويل والصيرفة وسواها. نحن على مفترق طريق وقرارانا، كفريق عمل، حاسم بسلوك خيار الاصلاحات. الوقت ينفد حقيقة ولا مناص من بلوغ محطة إطلاق ورشة وطنية شاملة تحاكي موجبات الخروج من الأزمة والإنطلاق بمسيرة التعافي.
عموما، الشمول في عملية الاصلاح قناعة راسخة لدى منصوري ورفاقه. لا يمكن معالجة الظواهر المرضية من دون التشخيص السليم لأصل المرض واستهدافه بالعلاج المركزّ. بصراحة، تم استهلاك الوقت الطويل على مدار 5 سنوات، وصرف احتياطات كبيرة تفوق 22 مليار دولار في إقرار رزم غير منظّمة بقنواتها وانضباطها وفي اتخاذ تدابير عرضية تحاكي الأعراض الجانبية للأزمة العاتية، وليس نواتها. في حين ساهم التشرذم الداخلي والفراغات الدستورية وشلل مؤسسات الحكم في مضاعفة سرعة اعصار الانهيارات، والنتيجة المقابلة، انحدار حاد للناتج المحلي من نحو 55 مليار دولار إلى أقل من 22 مليار دولار، وفقدان نحو 98 في المئة من القيمة الشرائية للعملة الوطنية، وتضخم مفرط تعدّت تراكماته حاجز ستة آلاف في المئة.
وفي الواقع، فإن الحديث عن فصول الأزمة في سنواتها الخمس ونتائجها الكارثية يطول كثيرا، لكن النفع الحقيقي يكمن، وفق رؤية الحاكم، في “التغيير” المنهجي عبر إطلاق المحاسبة في كل المجالات، وبالتوقف تماما عن اقتراح معالجات منفردة تضمر التهرب من المسؤوليات والمس بحقوق مشروعة. ودورنا كمصرف مركزي هو دور تكاملي مع الحكومة، نحن نتعامل ونحاول أن نتعاون معها لكي نؤمن الاستقرار، ولكن البنك المركزي لا يحل محل الحكومة ولا يحل محل السلطة السياسية التي يعود لها أن تؤمن الأرضية السليمة والاصلاحات المطلوبة.
بناء على كل ذلك، ومع الادراك لتعاظم حجم التحديات، وضآلة الامكانات والأمنيات، توجّب على صانع القرار النقدي أن لا ينتظر حدوث التغيير المنشود في المقاربات والمعالجات ليتحرك وفق “روزنامة” العمل وبرمجتها قطاعيا وزمنيا، مع الأخذ بالاعتبار لضرورات التحوط لتأثيرات مستجدات الحرب والمخاطر المحتملة لإمكانية توسعها في أي وقت.
وفي الترجمة العملانية لسبحة التغييرات المطابقة للقناعات والسياسات، وفي مقدمها معادلة أنه لا انقاذ بلا توازن جدي ومكتمل للمالية العامة، ولا اقتصاد ناشط بلا جهاز مصرفي سليم ومعافى، ولا مصارف من دون استعادة ثقة المدخرين والمستثمرين.
وفي أبرز المحطات والعناوين ذات الصلة:
– لا تمويل للدولة من دون سند تشريعي يحدّد أوجه الصرف وسبل السداد، مع التزام بحماية ضخ المداخيل الوظيفية بالدولار لصالح نحو 400 ألف منتسب للقطاع العام.
– وقف تام لنشاط منصة صيرفة، والعمل على استبدالها وفقا لقواعد وبيانات موثوقة وشفافة.
– اعتماد سعر صرف واحد للعملة الوطنية (89.5 ألف ليرة لكل دولار) في الموازنة العامة، ومجمل ميزانيات القطاع المالي وتعاملاته.
– الاستمرار بضخ حصص سحوبات شهرية بالدولار لصالح المودعين، وتوسيع شبكة المستفيدين من التعاميم ذات الصلة.
– عكس مؤشرات احتياطات العملات الصعبة من الاستنزاف الخطر إلى النمو المستهدف للإسهام بطمأنة المودعين والمستثمرين. حيث تعدى المتوسط الشهري للزيادة نحو 130 مليون دولار، ليبلغ الإجمالي نحو 10.3 مليار دولار (منتصف شهر تموز2024)، مقابل 8.7 مليار دولار في بدء الولاية (أول آب 2023).
– المساهمة في وضع الأطر الفعالة الآيلة إلى تصحيح أوضاع المصارف عبر عملية متكاملة ذاتيا وبإشراف وتوجيه السلطة النقدية.
– اعداد مخطط واضح يخص الودائع والاستثمارات القائمة لدى البنوك، وبما يشمل التدقيق في البيانات ولحظ الأولويات في برمجة السداد التدريجي وتحييد “الغث” عن الحقوق المشروعة.
– اعادة هيكلة وتنظيم العلاقات البينية مع شبكة البنوك المراسلة والمؤسسات المالية الإقليمية والدولية، وبما يشمل الإدارة الكفؤة لملف لبنان وتأخير تصنيفه السيادي ضمن القائمة “الرمادية” لدى الهيئات المختصة بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.
وإلى جانب المهام الأساسية المستعصية التي تتصدى لها السلطة النقدية، يثابر منصوري على محاولة تبريد ملف شائك في الأروقة المالية الدولية، بدءا من وزارة الخزانة الأميركية إلى مجموعتي العمل المالي الإقليمية في المنامة والدولية في باريس. فضلا عن المساهمة الفعالة في ردم الفجوات الداخلية المثيرة للالتباسات والشبهات لدى الهيئات ذات الاختصاص.
فمؤسسات القطاع المالي والمصرفي تلتزم المعايير المطلوبة، وفق تقييم الهيئات الدولية ذات الاختصاص. والحاكمية تبذل بالمباشر عبر زيارات واتصالات مكثفة مع الخارج، وعبر هيئة التحقيق الخاصة التي تتخذ ما يقع تحت صلاحياتها من اجراءات وحث مشدد للمؤسسات العامة والخاصة لتفادي انزلاق التصنيف.
حقيقة، لم يتردد، الحاكم بمهامه الأساسية وبصفته رئيسا للهيئة في نقل الصورة الواقعية لأحوال البلد، ووصف التداعيات الناجمة عن الخلل في انتظام المؤسسات العامة، وعن انفجار الأزمات النقدية والمالية إلى من يعنيهم الأمر داخليا وخارجيا. النتيجة، “نجحنا في شراء الوقت، لكننا نخشى استنفاد كل المهل ما لم نستجيب لبعض المتطلبات الأساسية التي تطمئن نسبيا الهيئات الاقليمية والدولية”.