الجمعة, يونيو 6

دراسة علمية تستشرف آفاق الحروب التجارية خصوصاً بين الولايات المتحدة والصين في ظل سياسات ترامب الدولية

دراسة علمية تستشرف آفاق الحروب التجارية خصوصاً بين الولايات المتحدة والصين في ظل سياسات ترامب الدولية

   تتصدر الولايات المتحدة دول العالم في انغماسها في الحروب التجارية القائمة على السياسة الحمائية لبعض قطاعاتها الاقتصادية والتجارية، وتتمثل أبرز أدوات النزاع بين دولتين أو أكثر في المجال التجاري حول عدد من الأبعاد، أبرزها “التعريفات الجمركية” المتبادلة، وتُعرف أحياناً باسم حروب الجمارك أو حروب الرسوم. فمنذ مطلع هذا القرن، بلغ عدد النزاعات التجارية الأمريكية مع العالم 15 نزاعاً من مجموع 23 نزاعاً تجاريّاً بين إجمالي دول العالم، ودلّت الخبرة التاريخية الأمريكية على احتمالات تطوّر النزاعات التجارية إلى حروب مباشرة.

   وبعد أن شكّل العجز التجاري الأمريكي مع أغلب دول العالم، وخصوصاً مع الصين مؤشراً مقلقاً على مستقبل الدور الأمريكي في السياسات الدولية، وفي ضوء الإجرءات الاقتصادية التي اتخذها الرئيس الأمريكي ترامب، أصدر مركز الزيتونة دراسة علمية بحثت في مستقبل الحروب التجارية في ظل سياسات ترامب الدولية، حيث أشار معدّ الورقة العلميّة، خبير الدراسات المستقبلية، الأستاذ الدكتور وليد عبد الحي، أن العجز في الميزان التجاري للولايات المتحدة يعود إلى عدم التوازن بين مستويات الادخار ومستويات الاستثمار، وإلى اتّساع الفجوة بين الإنفاق الحكومي وبين إيرادات الضرائب، بالإضافة إلى عدم التوازن بين الصادرات والواردات.

   وأضاف الدكتور عبد الحي أنّ الولايات المتحدة بلغت مستوى من العجز في موازنتها الفيدرالية يصل إلى 1.8 تريليون دولار في سنة 2024، وهو يقارب نحو 6.4% من إجمالي ناتجها المحلي، وهو رقم يمكن الاتكاء عليه لبناء سيناريوهات متشائمة ما لم يتم اتخاذ إجراءات وقائية لتفادي تداعياته، خصوصاً أنّ الدول المنافسة للولايات المتحدة في المجال الاقتصادي لا تعاني من هذه المشكلة الهيكلية بمقدار ثقلها على كاهل الاقتصاد الأمريكي.

   ورأى الباحث أنّ المدخل المباشر لتحقيق التوازن في الاقتصاد الأمريكي يتم أولاً بضبط الإنفاق الحكومي داخلياً، وأن الإقدام على مثل ذلك سيقود إلى ردّات فعل شعبية ومن بعض القطاعات المختلفة اقتصادياً، وأنّ تعهدات ترامب بتخفيضات ضريبية، ستؤدي إلى تفاقم الاختلال المالي، لأنّ الإيرادات الضريبية ستقلّ لمواجهة مستويات الإنفاق الحكومي.

   وخلصت الورقة إلى أن نجاح مسألة التعريفات الجمركية، خصوصاً في مواجهة دول عملاقة كالصين، مرهون بعوامل عدة كردّ الفعل من الدول الأخرى على نسبة جماركها على السلع الأمريكية، وهو ما يجعل هذه السلع أقل جذباً نظراً لارتفاع أسعارها في حالة تطبيق ردّ الفعل عليها، فكل زيادة في الضرائب الجمركية يليها وبشكل فوري زيادة في سعرها مما يقلّل من قدرتها التنافسية. خاصة ومن بين ردود الفعل الصينية إمكان تخفيض الصين لقيمة عملتها، وهو ما يجعل القيمة السعرية للسلع الصينية أقل، لكنها ستصبح أكثر جاذبية للمشتري الرشيد لأنها أرخص، وإذا تمكّنت الصين من ضبط التراجع في قيمة عملتها فإنها تستطيع تعويض تخفيض قيمة عملتها بزيادة الإقبال على إنتاجها السلعي بحكم رخص الاسعار. بالإضافة إلى أن فرض الجمارك على السلع الأمريكية مع معظم أسواق العالم سيزيد من سعرها في كل الأسواق، بينما ستُبقي السلعة الصينية على قدرتها التنافسية بل ستزداد مع الدول التي تبقى فيها السلع الصينية على المستوى نفسه من التعرفة الجمركية، فما كانت تبيعه الصين في الأسواق الأمريكية سينتقل إلى أسواق أخرى. كما أنّ رفع الصين لقيمة تعريفتها الجمركية على السلع الأمريكية سيجعل أسعار السلعة الأمريكية مرتفعة جداً، في ظلّ ارتفاع سعرها أصلاً، بسبب ارتفاع معدلات الأجور في الولايات المتحدة، وهو ما يًسهم في رفع سعرها في الأسواق العالمية.

   كما أشار الباحث إلى أن الصين قد تنتهج سياسة مُعيَّنة تقوم على نقل صناعاتها التي تفرض عليها الولايات المتحدة تعريفة جمركية إلى دول أخرى، وتُصدِّرها للولايات المتحدة على أساس أنّ المنتج هو لتلك الدولة، وخصوصاً الدول التي تكون نسبة التعريفة الجمركية الأمريكية عليها متواضعة، وهنا تستفيد الدولة المستقبلة للصناعة الصينية من ناحية، وتستفيد الصين بتمويه الدخول للسوق الأمريكي، ولكن بزي الدول المضيفة لصناعاتها. ومع أنّ بعض الدول مثل فييتنام لم تُبدِ ترحيباً بالفكرة، لأسباب سياسية تاريخية، فإن غيرها سيجد في ذلك فرصة له. وحيث إنّ الرسوم الجمركية الأمريكية تمس صادرات صينية إليها تصل إلى نحو 300 مليار دولار، فإذا تمكّنت الصين من إيجاد أسواق بديلة لنصف بضائعها، فإن تأثير الإجراءات الأمريكية سيكون أقل من 1% من إجمالي الناتج المحلي الصيني.

   ولفت د. عبد الحي الانتباه إلى ظاهرة برزت منذ أواسط تسعينيات القرن الماضي، وهي أنّ الإنتاج السلعي، وخصوصاً الصناعي، يعيش الآن ظاهرة يُطلق عليها علماء الاقتصاد اسم “سلاسل القيمة العالمية”، والتي تعني توزيع كل مراحل الإنتاج، من التصميم إلى التسليم للسلعة، في دول متعددة، ومن المؤكد أنّ هذه السلاسل متواجدة في خارج الولايات المتحدة، كامتداد للمركز. والمشكلة هي أنّ نموذج التصنيع الذي يُشكّل أساس نهج ترامب لم يكن موجوداً منذ ما يُقارب الأربعين عاماً، وبالتالي كيف ستُوفِّق سياسة ترامب الجمركية بين ترابط سلسلة القيمة العالمية وبين “قطريته المحصورة في المراحل المتواجدة داخل الولايات المتحدة فقط”، خصوصاً أنّ أي سعي لإعادة سلاسل التوريد بأكملها إلى الولايات المتحدة ستكون سبباً في ارتفاع أسعار المستهلك، وستجعل السلع الأمريكية غير قادرة على المنافسة دولياً.

   ورأى د. عبد الحي أنّ ترامب منحاز للسياسات الاقتصادية الصرفة أكثر من عنايته بالأبعاد السياسية والاجتماعية والقانونية الدولية، وأشار أن ذلك قد يبدو ذلك ممكناً في المدى القصير، إلا أن الترابط الاقتصادي والسياسي والأمني والاجتماعي الذي كرّسته العولمة، بغض النظر عن المنظور المعياري لها، ستُجبر ترامب أو من يليه على احترام اتجاهها، مهما أوهمته نرجسيته بأنّه يعيد صياغة العالم، ويعيد للولايات المتحدة عظمتها، كما يدَّعي في شعاراته وأطروحاته وما تتبناه منظمته MAGA. كما ينبغي التّنبيه إلى التداعيات السياسية المربكة التي ضربت منظومة الروابط للكتلة الرأسمالية التقليدية.

   ولم يستبعد د. عبد الحي أن يعمل ترامب على محاولة التعويض عن ثغرات مشروعه التجاري العالمي عبر الاتّكاء على بعض الأقاليم، خصوصاً في جنوب شرق آسيا والشرق الأوسط، من خلال الاستجابة الأمريكية لهواجس بعض الأنظمة العربية فيما يتعلّق باستقرارها الداخلي أو الإقليمي مقابل تقديم هذه الدول أكبر قدر من المكاسب الاقتصادية والتجارية لأمريكا، والتي قد تصل حدّ إجبار العرب على تبنّي قيود في سياساتهم التجارية مع بعض الدول، خصوصاً مع الصين.