“تعاني جنى، كبقية المواطنين في لبنان، من ماضٍ لم يتم تسويته بعد، وحاضر ضائع، ومستقبل غير موجود في الوقت الحالي، حتى كمجرد احتمال، لسنوات طويلة لم يكن أحداً في لبنان يعرف إلى أين تتجه حياته”، بهذه الكلمات وصف المخرج اللبناني إيلي داغر في حوار صحفي المزاج العام لأحدث أعماله فيلم البحر أمامكم الذي حصل على عرضه العالمي الأول ضمن فعاليات نصف شهر المخرجين في مهرجان كان السينمائي الدولي.
ورغم أن إيلي درس الفنون المعاصرة في إنجلترا، فهو يظل ابن الواقع اللبناني الذي نشأ فيه، وما يجعله مختلفًا هي الطريقة السريالية التي يعبر بها عن هذا الواقع، وإيمانه الشديد بقوة علاقة الفرد ببلده ومدى تأثيرها على منظوره للحياة بأكملها.
ومن سياق حديث إيلي، يصبح واضحًا أن الفيلم لا يروي قصة بطلته “جنى” فحسب، ولكنه يعكس من خلال شفافية حالة الاكتئاب التي تمر بها الواقع اللبناني وعاصمته بيروت، فعلى مدار الفيلم نتابع بطلته “جنى” عبر صورة “شادي شعبان” التي يهيمن عليها المزاج الشتوي واللون الأزرق البترولي، وهي تطفو بلا إطار زمني يحدها من جهة الماضي أو المستقبل، تنتقل فجأة من حال إلى حال، نشهد بيروت وهي تنتقل من كونها عاصمة الرومانسية إلى الاكتئاب والضياع، أو مثل “جنى” التي خسرت رهانها على أن تعيش حياة أفضل في باريس وعادت فجأة إلى نقطة الصفر مرة أخرى تجر معها ذيول الخيبة والهزيمة التي لا تلبث لتدفعها نحو الأسفل، جنى هي مثال لنضال أجيال يفاضلون طوال الوقت بين مغادرة الوطن والبقاء، يحلمون بحياة أفضل في الخارج ولكن البعض منهم يعودون بخيبة أمل.
وعندها تصبح خيبات “جنى” الشخصية هي انعكاس وامتداد للنكبات التي عاشها المجتمع اللبناني على مدار العقود السابقة، وكان ذلك متمثلًا في أول اسم للفيلم، إذ كان يحمل عنوان “Harvest” أي حصاد أو جني اسم بطلة الفيلم، ولكن بعد ذلك أصبح اسم الفيلم “البحر أمامكم” وكأنه يشير بصورة أشمل إلى ضرورة مواجهة الظروف، وصارت أكثر وضوحًا بعد انفجار مرفأ بيروت. ولذلك يمكن اعتبار مناورة إيلي في عدم الإشارة إلى زمن بعينه أو حدث بعينه، جعل من الفيلم قطعة فنية يليق سردها على كافة الأزمنة، هي حالة عامة تعبر عن بيروت الحديثة ولكنها تستلهم أوجاعها من بيروت الماضي التي هرب منها الجميع في زمن الحرب الأهلية.
وتشاء سخرية القدر أنه في الوقت الذي يقوم فيه إيلي بصناعة فيلمه عن حال لبنان، أن يجد نفسه وكأنه يقف أمام مرآة إذ كانت المستشفيات حينها تواجه خطر نفاد الغاز للمولدات، وبالطبع ظروف انفجار مرفأ بيروت، وفي وقت عرض الفيلم في كان بفرنسا غرقت مناطق كثيرة في لبنان في الظلام نتيجة لنقص في الكهرباء بسبب الأزمة الاقتصادية.
بيروت التي صورها إيلي داغر هي مدينة صامتة على عكس العاصمة الصاخبة التي لا تهدأ، أصبحت تميل أكثر إلى لحظات الصمت الطويلة، ربما لأن الجميع يهربون منها أو لأنها لم تعد قادرة على الاستمرار بسبب الأزمات التي تعصف بها بين الحين والآخر.
بدأ المخرج الحاصل على السعفة الذهبية بالعمل على فيلمه منذ عام 2015، وتمكن من الانتهاء منه قبل بداية الحجر المنزلي، وهو ما عقّد عملية المونتاج، وزاد الأمر صعوبة بانفجار المرفأ، إذ عمل إيلي مع المونتيرة ليا ماسون في البداية عبر الإنترنت على مونتاج لقطات الفيلم.
وعلى الرغم من أن الفيلم لم يقدم أي حلول أو إجابات شافية، أو نهاية سعيدة بالمعنى المتعارف عليه، ولكنه يطرح فكرة أن علينا المضي قدمًا حتى وإن كُنا لا نعرف الوجهة التي سننتهي إليها، فالاهتمام بتسجيل هذه المشاعر المتخبطة في الظروف المعقدة ربما يمنح تجربة تطهيرية تعطي دفعة للموهومين وفاقدي الأمل للتقدم نحو الأمام مهما بدا الأفق غائماً.