على أثر إجتماعه مع خبراء صندوق النقد الدولي، وذلك ضمن وفد الهيئات الإقتصادية، في بداية الأسبوع المنصرم،
عبّر رئيس جمعية تجار بيروت نقولا شماس عن شعوره الشخصي بالقلق العميق ممّا سمعه من وفد الصندوق، وإعتبر أن إحتمال نجاح الخطة المطلوبة من قِبل الصندوق ضئيل للغاية، وذلك نظراً لصعوبة إقرار هكذا خطة في المجلس النيابي من جهة، وشبه إستحالة تطبيقها في حلّتها الراهنة على أرض الواقع من جهة أخرى.
فإن إطلالة صندوق النقد خلال هذه الجولة إتَّسمت بتصلّب غير مسبوق، حيث ضرب بعرض الحائط المبادىء الأساسية والخطوط العريضة لخطة الهيئات، والتي كانت قد لاقت إستحساناً وتقبّلاً كبيرين من كافة الأوساط اللبنانية المعنية.
ومع أن خطة الهيئات كانت قد حدّدت المسؤوليات بدقة، ووزّعت الخسائر بعدل، وإحترمت قدسية الملكية الخاصة، وعلى رأسها الودائع على إختلاف أحجامها، وإذ بصندوق النقد يقفز فوق هذه الثوابت والمبادىء الجوهرية لدى جميع اللبنانيين، ويبرّىء الدولة من كافة مسؤولياتها، ويعفيها من أي مساهمة في ردم الفجوة المالية الهائلة التي تسبّبت بها هي أساساً.
وإذ إعتبر الصندوق أن أصول الدولة لا تُمَسّ من ناحية المبدأ، واجهته الهيئات بأمثلة مضادة في عدد من الدول، حيث أن اليونان بالأمس، ومصر اليوم، أُتيحت لهما فرصة إستعمال بعض الأصول العامة، مع التشديد على أن خطة الهيئات ترمي فقط إلى إستثمار أصول الدولة وليس بيعها لإستعادة أموال المودعين.
فقد أصرّ الصندوق على حماية الودائع دون الـ 100,000 دولار وتحميل الحسابات الأخرى وزر الخسارة المالية الضخمة بعشرات المليارات.
فإن الصندوق يعتبر أن قضية الودائع المصرفية صارت وراءه، فيما الهيئات الإقتصادية ومجلس النواب يعتبران أن معضلة الودائع لا تزال مطروحة وقائمة بقوة أمامنا.
وإعتبر شماس أن المماطلة والتسويف في قضية حماية الودائع تسبّبا في تأخير تنفيذ خطة التعافي ليومنا هذا، وفي تغذية العنف ضد المصارف، وفي إرجاء قوانين مثل “الكابيتال كونترول” والتي ليس للودائع علاقة مباشرة بها.
والمفارقة أن عدد الودائع التي تفوق 100,000 دولار هو مرتفع جداً ويناهز 175,000 وديعة، أي ما يمثل شريحة كبيرة من الإقتصاد الوطني والمجتمع اللبناني.
وفي التدقيق يتبّين أن هذه الحسابات تعود للجامعات والمؤسسات الخيرية والنقابات المهنية وصناديق التعاضد وشركات التأمين، إضافةً إلى مؤسسات القطاع الخاص على تنوّعها والتي تستعملها في الظروف الطبيعية لتغطية نفقاتها التشغيلية وحاجاتها الإستثمارية وإلتزاماتها في الداخل والخارج،
فضلاً عن أن الأفراد الذين تعود لهم هذه الحسابات هم في طليعة من يستثمر، ويُنتج، ويُصدّر، ويستهلك، ويسدّد الضرائب.
فإن تحميل عشرات مليارات الدولارات لهذه الفئات يقع في خانة الإنتحار الإقتصادي، إلى جانب كونه جريمة أخلاقية ودستورية موصوفة.
فإن الدستور اللبناني يمنع التمييز بين المواطنين، كما ووضع اليد على الملكية الخاصة، لا سيما وأن تلك الودائع قد تمّ إستغلالها لتحقيق المنفعة العامة لعشرات السنين من خلال دعم العملة الوطنية، والسلع الإستهلاكية على إختلافها، وصولاً إلى المحروقات على أنواعها.
فغريب أمر صندوق النقد الذي يرفع المسؤولية عن الدولة ويرميها بالكامل على كاهل فئة من المودعين، مع التذكير أن ما تمّ إرتكابه من خطايا بعد 17 تشرين الأول 2019(التخلف عن تسديد الEurobonds، دعم سلع وجهتها الأساسية هي التهريب، إلخ…) لا يقل خطورة عما إرتُكب من أخطاء قبل هذا التاريخ، وليس للمودعين أي علاقة بالموضوع في كلتا الحالتين.
والأنكى من ذلك، أن صندوق النقد لم يكتفِ بالمطالبة بالتدابير الآيلة إلى شطب الودائع بشطحة قلم، بل أنه بدأ أيضاً بالتسويق لسلّة متكاملة من الضرائب والرسوم، تبدأ بالدولار الجمركي على سعر “صيرفة” وما بعد “صيرفة”، ولا تنتهي بالضريبة على الدخل وعلى القيمة المضافة، وسواهما من الضرائب.
وذريعة الصندوق في ذلك أن مداخيل الدولة أصبحت الأدنى منذ إنتهاء الحرب، متناسياً أن جميع المؤشرات الإقتصادية والإجتماعية وقعت هي أيضاً في القعر، في حين أن أسعار الخدمات إرتفعت بشكل صاروخي، وأن مؤشر التضخم العام ناهز إرتفاعه 1,000% منذ بداية الإنهيار.
بناءً على كل ما تقدم، تطالب جمعية تجار بيروت صندوق النقد الدولي، وبإلحاح، بضرورة الإقلاع عن الوصفات الجاهزة والتي لا تتناسب البتة مع الوضع اللبناني الراهن، والأخذ بالحسبان خصوصيات لبنان المالية والإقتصادية والإجتماعية.
أما أي طرح يعفي الدولة من مسؤولياتها الجسيمة ويصادر أموال المودعين، ويرهق الإقتصاد الوطني ويستنزف المجتمع اللبناني، فهو مدمِّر لثقة الأقربين والأبعدين، ولن يقوم للبنان قائمة في ظلّه.