تلبي العمارة في جوهرها الاحتياجات الأساسية، وتوفر المأوى ضمن درجة حرارة صالحة للسكن، وتقدم بشكل متزايد ملاذًا أمناً من الظروف المناخية القاسية. لكن الفضاءات التي يقضي فيها الناس أوقاتهم لها أيضًا تأثير عميق على نوعية حياتهم. تملك العمارة القدرة على الجمع بين الأفراد، وربط المجتمعات وتوفير الاستمرارية الثقافية، مع تعزيز التطلعات الجريئة. تم إنشاء جائزة الآغا خان للعمارة، وهي الآن في عامها الخامس والأربعين، لتشجيع هذا التميز المعماري. تعترف الجائزة بالاستخدام المبتكر للموارد المحلية والتكنولوجيا المناسبة التي تلبي بنجاح الاحتياجات المادية والاجتماعية والاقتصادية وكذلك التطلعات الثقافية للمجتمعات التي يكون للمسلمين حضور كبير فيها. وقبل كل شيء، تحتفي الجائزة بالمشاريع التي تعزز روح التعددية: وبكلمات سمو الآغا خان، احتضان الاختلاف عوضاً عن القضاء عليه.
اختتمت الدورة الخامسة عشرة للجائزة بحفل توزيع الجوائز في مسقط، بحضور الفائزين المتميزين إلى جانب المسؤولين في سلطنة عُمان، وعدد من الخبراء المعماريين، واللجنة التوجيهية للجائزة وأعضاء لجنة التحكيم العليا، بالإضافة إلى كبار الشخصيات من جميع أنحاء العالم.
ولا شك أن مسقط هي المضيف المناسب لجائزة تركز على العمارة ضمن السياقات الإسلامية؛ إذ تتميز المدينة بالعمارة الإسلامية المعاصرة التي تتراوح من جامع السلطان قابوس الأكبر إلى دار الأوبرا السلطانية، فضلاً عن المنازل التقليدية المبنية من الطوب والحصـون المرممـة. قام ضـيوف جـائزة الأغا خان للعمارة بجولة في المواقع التاريخية وحضروا ندوة حول الفائزين بالجائزة، والتي أصبحت، على مر السنين، سمة مميزة للجائزة التي تقام كل ثلاث سنوات. وجمعت الندوة بين مهندسين معماريين وأعضاء اللجنة التوجيهية ولجنة التحكيم العليا لتداول اختيارات لجنة التحكيم ومناقشة التأثير الاجتماعي للعمارة ضمن السياق الخاص بسلطنة عُمان. واختتم حفل توزيع جائزة الأغا خان للعمارة هذه التظاهرة التي استمرت لمدة ثلاثة أيام، وشملت أيضاً الاحتفال بالفائزين بجوائز الآغا خان للموسيقى لعام 2022. وتم تقديم الفائزين ضمن حفلتين موسيقيتين أقيمتا في دار الأوبرا السلطانية، دار الفنون الموسيقية في مسقط.
وقال سعادة السيد سعيد بن سلطان البوسعيدي، وكيل وزارة الثقافة والرياضة والشباب للثقافة، في كلمة ألقاها أمام الحضور “تأتي استضافة سلطنة عمان لحفل توزيع جوائز الآغا خان للعمارة والموسيقى والفعاليات المصاحبة لها دعما لأهداف الاستراتيجية الثقافية التي تدعو لهوية متفتحة على ثقافات الشعوب وتأكيدا على دعمها المستمر للثقافة والآداب والفنون وتحقيقا لأحد أهم محاورها تعزيز التواصل الثقافي وابراز دور سلطنة عمان في خارطة الثقافة العالمية إلى جانب تحقيق الشراكة والتكامل مع المؤسسات المحلية والدولية في المجالات الثقافية.”
بدورها أشادت الأميرة الزهراء آغا خان، التي مثلت صاحب السمو الآغا خان في حفل توزيع الجوائز، بالمضيف صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم وسلطنة عمان، كما توجهت بالشكر لصاحب السمو السيد ذي يزن بن هيثم آل سعيد لحضوره الكريم في هذه الأمسية. وقالت في كلمة لها خلال الحفل: “يعكس الاحتفال بالجائزة هنا في عُمان اقتناعًا راسخاً ومشتركًا بأن المباني يمكن أن تقوم بأكثر من مجرد استضافة الأشخاص والبرامج، بل يمكنها أيضًا أن تعكس قيمنا الأكثر عمقاً.”
وأضافت بأن صاحب السمو يملك إيمانا عميقا بأن العمارة لا تتعلق بالبناء فقط؛ بل هي وسيلة لتحسين نوعية الحياة للناس أيضاً.
وتضمنت الأمسية عرضًا قدمه كبار موسيقيي برنامج الآغا خان للموسيقى (AKMM)، بمشاركة الضيف الخاص يوردال توكان، عازف العود البارز الذي كان عضواً في لجنة التحكيم الرئيسة لجوائز الأغا خان للموسيقى لعام 2022، كما تم عرض فيلم حول الفائزين بالجائزة في هذه الدورة (2022).
كما أكدت الأميرة الزهراء آغا خان في كلمتها على كل من فلسفة التعددية للجائزة والحاجة إلى العمارة لإيجاد حلول للقضايا المادية والبيئية الملّحة. وقالت: “على مر السنين، عملت الجائزة كمنارة لأولئك الذين يشعرون بأنه يمكنهم التصميم والبناء على نحو مختلف ولأولئك الذين يعتقدون بأنهم يحملون على عاتقهم مسؤولية البناء بشكل مناسب مع الاخذ في الاعتبار ان العمارة في أفضل حالاتها هي مشروع تعددي بطبيعته.”
تم ترشيح 463 مشروعًا من 55 دولة للجائزة هذا العام، واختارت لجنة التحكيم العليا 20 مشروعًا لزيارتها وتقييمها.
وختمت الأميرة الزهراء آغا خان كلمتها بالقول: “ إن مشاريعكم تعترف باحتياجات المجتمعات المتنوعة، وتحترم العالم الطبيعي، وتعزز نوعية الحياة، وهي تعتبر نماذج للعالم بأسره.”
من جهته يقول فرّخ درخشاني، مدير جائزة الآغا خان للعمارة في مقدمة كتاب “العمارة الشاملة” (تحرير سارة م. وايتنغ)، 2022 “يملك كل مشروع قصة – حول كيفية تصوره وبناؤه واستخدامه – لا يمكن تفسيرها ببساطة من خلال الرسومات والصور. كان أحد اهتمامات لجنة التحكيم العليا لعام 2022 النظر في الحقائق التي تتسم بها فترة ما بعد جائحة كورونا، جنبًا إلى جنب مع الجوانب البيئية والاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية والجمالية لكل مشروع.”
تم اختيار ستة من هذه المشاريع لتقاسم الجائزة المالية التي تبلغ قيمتها مليون دولار. وتقع هذه المشاريع في بنغلاديش وإندونيسيا وإيران ولبنان والسنغال، ويتراوح تنفيذها على نطاق واسع. يوفر مشروع المساحات النهرية الحضرية للسكان إمكانية الوصول إلى نهر نابغانغا؛ بينما توفر المساحات المجتمعية الستة المؤقتة لبرنامج الاستجابة لأزمة اللاجئين الروهينجا استجابة كريمة للاحتياجات الطارئة؛ ويتطلع مطار بانيوانجي الدولي إلى مستقبل جاوة الشرقية؛ بينما قام كل من متحف آرغو للفن المعاصر والمركز الثقافي – وهو مصنع للجعة في السابق – بتحويل المكان إلى متحف خاص للفن المعاصر؛ وكذلك الأمر في دار نيماير للضيافة التي تم تجديدها وإعادة استخدام البناء الموجود في المكان؛ في حين تمثل مدرسة كامانار الثانوية ابتكاراً جديداً بالكامل حيث تتجمع حجرات الفصول الدراسية حول ظلال الأشجار الموجودة في الموقع. ومع ذلك، يُظهر كل مشروع من هذه المشاريع الابتكار والعناية بالبيئة والتركيز على الإنسان من خلال إنشائها واستخدامها وحفظها للذاكرة التاريخية.
وشرحت لجنة التحكيم العليا اختيارها للفائزين بالقول إن “الأماكن العامة المفتوحة والحرة تمتلك القدرة على التعافي وتستعيد الشعور بالفخر والكرامة. لقد بحثنا عن الجودة في الفضاء المعماري وفي نوعية الحياة والعلاقات الاجتماعية، حيث تمتلك الهندسة المعمارية أثراً كبيراً في إضفاء عناصر الكرم والجمال بسهولة كبيرة.” ومن المأمول أن تكون المشاريع الفائزة مصدر إلهام لأولئك المعنيين بالبيئة المبنية، مثل المهندسين المعماريين والعملاء وصناع القرار والبنائين والمستخدمين؛ لمساعدتهم على تصور العمارة التي من شأنها معالجة القضايا الحالية وتعزيز نوعية الحياة في المستقبل.