تنتهي ولاية المحقق العدلي بانتهاء القضيّة التي عُيّن لأجلها
حيث أنه بتاريخ 24/1/2023، قرّر المحقق العدلي في جريمة انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار استئناف تحقيقاته في القضية المتوقفة منذ 13 شهراً، وقد ادّعى على ثمانية أشخاص جدد وأرسل مذكرات لإبلاغهم مواعيد الجلسات المخصّصة لكلّ منهم، ووافق على إخلاء سبيل خمسة موقوفين في هذا الملف،
وحيث أنّ المحقق العدلي استند إلى مواد قانونية من ضمنها المادة 357 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، التي نصّت على ” أن المجلس العدلي يؤلف من الرئيس الأول لمحكمة التمييز ومن أربعة أعضاء من محاكم التمييز يعينون بمرسوم يتّخذه مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل وموافقة مجلس القضاء الأعلى، وأن المرسوم نفسه يقضي بتعيين عضو رديف أو أكثر في المجلس العدلي، يحلّ محلّ القاضي الأصيل في حال إحالته على التقاعد أو الوفاة أو في حال ردّه “، مع الإشارة الى عدم وجود أي مادة قانونيّة تنصّ على إمكانيّة ردّ المحقق العدلي كما هي الحال بالنسبة لردّ أعضاء المجلس العدلي، الأمر الذي يؤكّد عدم جواز ردّه.
وحيث أنه بتاريخ 25/1/2023، صدر عن النائب العام التمييزي القاضي غسان منيف عويدات القرار رقم : 1/ مجلس عدلي / 2020، والذي تضمّن ما حرفيته :
” نحن غسان منيف عويدات النائب العام لدى محكمة التمييز،
بما أن المحقق العدلي القاضي طارق البيطار المكفوفة يده في قضية انفجار مرفأ بيروت، اعتبر نفسه مولجا بصلاحيات النائب العام لدى محكمة التمييز لاتخاذ ما يراه مناسبا من إجراءات، فيكون بذلك قد استقى صلاحياته وسلطته من الهيئات القضائية جميعا،
وبما أنّ هذا الأمر ينسحب أيضا على النيابة العامة التمييزية فيسري على الأصل أيضا،
وبما أنّ كف اليد يبقي الملف بدون قاض للنظر في طلبات اخلاء الموقوفين منذ أكثر من سنة،
وبما أنّه بالاستناد الى المادة 9 فقرتيها 1 و 3 من العهد الدولي الخاص التي أقرّت في 16/1/1966 ودخلت حيّز التنفيذ في 23/3/1976 والتي صادق عليها لبنان في 3/11/1972
لذلك،
نقرر اطلاق سراح الموقوفين كافة في قضية انفجار مرفأ بيروت دون استثناء ومنعهم من السفر وجعلهم بتصرف المجلس العدلي في حال انعقاده وإبلاغ من يلزم.”
وحيث أنّ هذا القرار يطرح جملة من التساؤلات، لا بل يقتضي مناقشة، إثارة ومعالجة كافة النقاط والإشكاليات، توصلاً لتبيان مدى صلاحية النائب العام التمييزي لإصدار هكذا قرار،
وحيث أنّ استعراضنا لكامل منطوق القرار هو بغية معالجة كل حيثية من حيثياته على اعتبار أنّ كل حيثية هي نقطة قانونية بحدّ ذاتها،
وحيث أنّ النقاط القانونية المطروحة والتي يقتضي معالجتها هي على الشكل التالي :
- مدى اعتبار القاضي بيطار مكفوفة يده، بالنظر الى القرار الصادر عن الأخير والمستند الى اجتهاد المجلس العدلي نفسه.
- هل أنّ القاضي بيطار اعتبر نفسه مولجا بصلاحيات النائب العام التمييزي؟
- ما مدى صلاحية النائب العام التمييزي في اصدار قرار “اطلاق سراح”؟
حيث أنّه بالإشارة الى ما صار تبيانه آنفاً يتبين تنكّر القاضي بيطار لقرار كف يده عن متابعة التحقيقات بالاستناد الى اجتهاد قديم صادر عن المجلس العدلي،
وهنا نشير الى أنّ المجلس العدلي يعين بمرسوم من مجلس الوزراء وهي محكمة استثنائية أعلى درجة من النائب العام التمييزي،
إضافةً الى ذلك، وبالاستناد الى الدراسة السابقة التي أشرنا اليها، فقد أثبتنا أنه لا يجوز ردّ المحقق العدلي، ولا حتى إقالته إلا من قبل السلطة التي عينته عملاً بمبدأ الموازاة في الأصول والصيغ.
ومن المتعارف عليه أنّ المجلس العدلي اللبناني كمرجع قضائي، هو من فئة القضاء الاستثنائي، وينضوي حكماً معه المحقق العدلي.
وحيث أنّه نُظمت الأحكام المتعلقة بالمجلس العدلي في قانون أصول المحاكمات الجزائية ولا سيّما في المادّة 355 وما يليها من هذا القانون، والتي جاء فيها أنّه تحال الدعاوى على المجلس العدلي بناءً على مرسوم يُتّخذ في مجلس الوزراء.
وهذا يعني أنّ دور مجلس القضاء الأعلى في مرسوم الإحالة هو دور إستشاري غير ملزم، حيث يقترح وزير العدل إحالة الملفّ إلى المجلس العدلي، فيما يعود لمجلس الوزراء صلاحية اتّخاذ القرار بإحالة الملف إلى المجلس العدلي.[1]
أمّا في القوانين النافذة، فقد أشار القانون إلى صلاحية مجلس الوزراء في إحالة الملفّ إلى المجلس العدلي دون ذكر أيّ دور لوزير العدل أو لمجلس القضاء الأعلى، اللذين يأتي دورهما لاحقاً بعد تعيين المحقق العدلي.
إذاً، عندما تُرتكب جريمة من الجرائم التي تدخل ضمن صلاحية المجلس العدلي، فإنّ دعوى الحق العام لا تتحرّك أمام المجلس العدلي إلا بمرسوم صادر عن مجلس الوزراء، أي ينحصر دور مجلس الوزراء في إصدار مرسوم يقضي بإحالة الجريمة المذكورة إلى المجلس العدلي. وقد عدّدت المادة 356 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجرائم التي ينظر فيها المجلس العدلي.
وحيث أنّ موضوع البحث الحاضر يتمحور حول مدى صحّة وقانونية صدور مرسوم يقضي بإقالة المحقق العدلي، على قاعدة الموازاة في الأصول والصيغ وأنّ المرجع الذي عيّن هو الذي يقيل، ومن جهة ثانية، من هو المرجع الصالح للبتّ في طلب ردّ المحقق العدلي،
في الحقيقة، للإجابة على هذه النقطة لا بدّ من العودة الى قانون أصول المحاكمات الجزائية، وتحديداً الفقرة الثانية من المادّة 360 منه، التي نصّت على ما حرفيته:
“يتولى التحقيق قاضٍ يعيّنه وزير العدل بناءً على موافقة مجلس القضاء الأعلى”.
إذاً، فالمحقق العدلي لا يتمّ تعيينه بمرسوم، بل إنّ إحالة القضيّة برمّتها إلى المجلس العدلي هي التي تتمّ بمرسوم صادر عن مجلس الوزراء، أمّا تعيين المحقق العدلي فيحصل من قبل وزير العدل، شريطة موافقة مجلس القضاء الأعلى.
وقد اعتبر الدكتور حاتم ماضي في مؤلّفه ” قانون أصول المحاكمات الجزائية “، الطبعة الثانية، 2002، منشورات صادر الحقوقية، ص 334 أنّه تنتهي ولاية المحقق العدلي بانتهاء القضيّة التي عُيّن لأجلها.
في الخلاصة، وانطلاقاً من مجمل ما ورد أعلاه، بإمكاننا الجزم بأنّه لا يحق لمجلس الوزراء إقالة المحقق العدلي، كما لا يحق لوزير العدل إقالته حتى ولو بموافقة مجلس القضاء الأعلى، لأنّ الأحكام المتعلقة بالمجلس العدلي هي أحكام خاصّة واستثنائية ولا يجوز التوسّع في تفسيرها، فولاية المحقق العدلي تنتهي فقط بانتهاء القضيّة التي عُيّن لأجلها.
أما عن مدى جواز رد المحقق العدلي، فقد نصّت المادّة 357 من قانون أصول المحاكمات الجزائية على أنّه:
“يؤلف المجلس العدلي من الرئيس الأول لمحكمة التمييز رئيساً ومن أربعة قضاة من محكمة التمييز أعضاءً، يُعيّنون بمرسوم يُتّخذ في مجلس الوزراء بناءً على اقتراح وزير العدل وموافقة مجلس القضاء الأعلى.
يُعيّن في المرسوم قاضٍ إضافي أو أكثر ليحلّ محلّ الأصيل في حال وفاته أو تنحّيه أو ردّه أو انتهاء خدمته”.
وبناءً على ذلك، يتبيّن من نصّ المادّة 357 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، على أنّه يعيّن في المرسوم قاضٍ إضافي أو أكثر ليحلّ محلّ الأصيل في حال وفاته أو تنحّيه أو ردّه الخ. إنّ ورود عبارتَي الردّ والتنحّي في المادّة المذكورة من شأنه أن يشكّل إقراراً تشريعياً بإمكانية ردّ قضاة المجلس العدلي.
بيد أنّ هذا النص أتى منقوصاً، نظراً لعدم التطرق إلى آليّة ردّ قضاة المجلس العدلي ومنهم المحقق العدلي، مع الأخذ بعين الاعتبار أمرين:
الأول: أنّ هذه الأحكام هي خاصّة واستثنائية ولا يجوز التوسّع في تفسيرها.
الثاني: أنّ المجلس العدلي محكمة خاصّة لا تعلوها أيّ محكمة أخرى، وليس فيها تعدّد غرف.
واستطراداً، لا بدّ من العودة إلى قانون أصول المحاكمات المدنية وهو القانون العادي العام الواجب التطبيق عند خلوّ قانون أصول المحاكمات الجزائية من أحكام معيّنة، وذلك طبقاً لأحكام المادّة 6 من قانون أصول المحاكمات المدنية التي نصّت على أنّه تُتبّع القواعد العامّة في قانون أصول المحاكمات المدنية إذا وُجد نقص في القوانين والقواعد الإجرائية الأخرى.”
وحيث إنّه بالرجوع الى قانون أصول المحاكمات المدنية، سيما المادة 123 منه، يتبيّن لنا جلياً أنّ عرض التنحّي أو طلب الردّ في ما يتعلق بقضاة محاكم الدرجة الأولى يقدّم إلى محكمة الاستئناف التابعة لها تلك المحاكم فتنظر فيه بغرفة المذاكرة وقرارها لا يقبل أيّ طعن،
وأنّه يقدّم عرض التنحّي أو طلب الردّ في ما يتعلّق بقضاة محكمة الاستئناف إلى محكمة الاستئناف ذاتها فتنظر فيه غرفة من غرفها يعيّنها الرئيس الأول لهذه المحكمة وقرارها الذي يصدر في غرفة المذاكرة لا يقبل أيّ طعن،
ويقدّم عرض التنحّي أو طلب الردّ في ما يتعلق بقضاة محكمة التمييز إلى هذه المحكمة فتنظر فيه غرفة من غرفها يعيّنها الرئيس الأول لمحكمة التمييز،
وحيث إنه لم يرد في هذه النصوص بأيّ شكل من الأشكال الإجراءات أو المرجع المختصّ للنظر في طلبات ردّ المحقق العدلي أو قضاة المجلس العدلي، إلا أنّه كما أشرنا أعلاه، فقد ورد في نصّ المادة 357 من قانون أصول المحاكمات الجزائية أنّه “يُعيّن في المرسوم قاضٍ إضافي أو أكثر ليحلّ محلّ الأصيل في حال وفاته أو تنحيته أو ردّه أو انتهاء خدمته”؛
لذلك نرى أنّه لا يجوز للمجلس العدلي بهيئته أن ينظر في طلب ردّ أحد قضاته، كما أنّه لم ينصّ القانون على آليّة وإجراءات البتّ في طلب الردّ والمرجع الصالح لذلك، وإنّ هذا الأمر يشكّل نقصاً تشريعياً يستدعي تدخّل مجلس النوّاب لحلّ هذه المعضلة.
في المحصّلة، إنّ أهم العيوب التي قد تطرأ على النصوص التشريعية تكمن في النقص أو السكوت كإغفال بعض الحالات التي كان يُفترض أن ينصّ عليها. وأكبر دليل على ذلك هي الأحكام المذكورة آنفاً، والتي تضمّنت مسألة تنحية وردّ قضاة المجلس العدلي، ولكن لم تنظم أحكامها ولم تحدّد المرجع الصالح للبتّ فيها.
وبناءً على ذلك، إنّ مسألة ردّ المحقق العدلي تعاني من نقص تشريعي، في ظلّ عدم وجود نصوص قانونية تنظم آلية وإجراءات البتّ برد وتنحي قضاة المجلي العدلي كما المرجع الصالح للنظر بهذه المسألة. وفي هذا المضمار، لا بدّ من اللجوء إلى التفسير التشريعي لاستنتاج الحكم الذي تنصّ عليه المواد القانونية المتعلقة بقضاة المجلس العدلي، إذ يجب أن يصدر التفسير عن المشرّع نفسه لكي يتمتّع بالقوّة الإلزامية ولإزالة الانقسام الحاصل حول هذه النقطة، سيّما وأنّ القانون المتعلق بالمجلس العدلي هو قانون خاصّ. والقانون التفسيري الصادر عن المشرّع هو قانون بحدّ ذاته مكمل للقانون المراد تفسيره وهو أقوى أقوال التفسير من الوجهة القانونية.
ليضحي العنوان الحاضر هو الجواب الأوضح والأسطع على الإشكالية المثارة، التي مفادها:
تنتهي ولاية المحقق العدلي بانتهاء القضيّة التي عُيّن لأجلها.
- هل أنّ القاضي بيطار اعتبر نفسه مولجا بصلاحيات النائب العام التمييزي؟ وما مدى صلاحية النائب العام التمييزي بإطلاق سراح المدعى عليهم؟
بناء لما صار بيانه أعلاه، أصبح واضحاً أنه طالما لا يجوز إقالة المحقق العدلي ولا حتى رده، وبما أنّ كل الطلبات التي قدمت بهذا الشأن كان الهدف منها تعطيل مسار التحقيق، بالتالي يكون ما أقدم عليه المحقق العدلي هو انفاذا للقانون وتطبيقا للصلاحيات التي منحت له قانونا.
ولكن يجب أن يكون السؤال معكوساً، فهل أنّ النائب العام التمييزي يعتبر والحالة هذه مغتصباً للسلطة بحلوله محلّ المحقق العدلي وإصداره قراراً خارجاً عن نطاق صلاحياته؟
الجواب على ذلك يكون بالعودة الى النص. وعند وضوح النص لا يصح الاجتهاد.
وحيث أن المادة 13 من قانون أصول المحاكمات الجزائية وما يليها (تحت الباب الأول) قد نصت على مهام وصلاحيات النائب العام لدى محكمة التمييز. ومن البديهي القول أنّ النائب العام التمييزي هو رأس النيابة العامة كسلطة ادعاء. أي أنه طرف في النزاع يمثل الحق العام وله مهام وسلطات وكما أنه يتمتع بصلاحيات.
ومن التمعن بنصوص المواد 13 و14 و15 و16 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، لا يتبين منها أن النائب العام لدى محكمة التمييز لديه صلاحية الحلول محل المحقق العدلي، وان كان بحسب اعتباره يعتبر مكفوف اليد، وبالتالي ليس له بأي شكل من الأشكال أن يتّخذ قراراً بإخلاء سبيل الموقوفين تحت ستار إطلاق سراح لأنه سلطة ادعاء وإنّ المخلى سبيلهم هم أطرافاً في الدعوى، وكأن النائب العام قد جمع بذلك سلطتين تحت يده.
وما يؤكد على انفصال صلاحية النائب العام لدى محكمة التمييز عن صلاحية المحقق العدلي مهما كانت ظروف قراراته هو ما نصت على المادة 16 من قانون أصول المحاكمات الجزائية والتي نصت في الفقرة الثانية منه أنه ” للنائب العام لدى محكمة التمييز أن يطلع على ملف التحقيق الذي يتولاه قضاة التحقيق وأن يطلب من النائب العام المختص ابداء المطالعة التي تتوافق مع توجيهاته الخطية.”
فكم بالحري ان كنا نتناول ملفاً عالقاً أمام محقق عدلي معين بناء على مرسوم إحالة الملف الى المجلس العدلي، وفق الأصول المنصوص عنها في قانون أصول المحاكمات الجزائية؟؟؟
وحيث أنّ المادة 17 من قانون أصول المحاكمات الجزائية قد نصت على صلاحيات النائب العام لدى محكمة التمييز وهي على الشكل التالي:
” أ. طلب نقض الأحكام والقرارات الجزائية وفقًا للأصول المحدّدة في هذا القانون.
. ب. طلب تعيين المرجع وطلب نقل الدعوى من محكمة إلى أخرى.
. ج. الادعاء بالجرائم المحالة إلى المجلس العدلي.
. د. الادعاء بالجرائم التي يرتكبها القضاء سواء أكانت ناشئة عن الوظيفة أم خارجة عنها.
. ه. تمثيل النيابة العامة لدى محكمة التمييز والمجلس العدلي.
. و. إعداد ملفات استرداد المجرمين وإحالتها على وزير العدل مشفوعة بتقاريره.
. ز. وضع تقرير مفصل يرفق بملف المحكوم عليه بالإعدام عند إحالته على لجنة العفو الخاص.
ح. سائر المهام والصلاحيات الوارد ذكرها في هذا القانون وفي غيره. ”
وهنا لا بد من لفت النظر حول الفقر “ج” والتي تتعلق بحصر صلاحية النائب العام لدى محكمة التمييز ب”الادعاء” بالجرائم المحالة الى المجلس العدلي من دون أي صلاحية أخرى. مع التنويه بأن الأحكام المتعلقة بالمجلس العدلي هي أحكام خاصة واستثنائية ولا يجوز التوسع في تفسيرها.
أما عن صلاحيات النيابة العامة التمييزية المذكورة تحت الفصل الخامس “المجلس العدلي” فنجدها في المادة 357 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، الفقرة الثالثة التي نصت على أنه ” يمثل النيابة العامة لدى المجلس العدلي النائب العام التمييزي أو من ينبيه عنه من معاونيه. ”
وطبقاً لهذه المادة، فإنّ دور النيابة العامة التمييزية ينحصر بتمثيل النيابة العامة لدى المجلس العدلي، وبحسب المادة 360 من قانون أصول المحاكمات الجزائية فإنه ” يتولى النائب العام التمييزي أو من ينيبه عنه من المحامين العامين لدى النيابة العامة التمييزية مهام تحريك الدعوى العامة واستعمالها.” وهنا يقتضي تفسير معنى ومفهوم تحريك الدعوى العامة واستعمالها، حيث أنه من عداد هذا المفهوم ما نصت عليه المادة 361 من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي نصت على أنه يدعي النائب العام التمييزي لدى المحقق العدلي بالجريمة ويحيل اليه ملفات التحقيقات. باختصار ان النيابة العامة التمييزية تملك سلطة الادعاء عبر تحريك دعوى الحق العام واستعمالها، ما يتناقض حكما مع “اطلاق سراح جميع الموقوفين” .
وحيث أنّ صلاحية المحقق العدلي في الجرائم المحالة اليه أوسع نطاقا من صلاحيات النائب العام التمييزي. وما الدليل على ذلك سوى:
- ما نصت عليه المادة 362 من قانون أصول المحاكمات الجزائية على أنه : للمحقق العدلي أن يصدر جميع المذكرات التي يقتضيها التحقيق دون طلب من النيابة العامة، التي لها أن تدعي لاحقا في حق شخص أغفلته في ادعائها الأصلي.
- صلاحية المحقق لعدلي في أن يصدر جميع المذكرات التي يقتضيها التحقيق دون طلب من النيابة العامة بموجب قرارات لا تقبل أي طريق من طرق المراجعة.
اذا، كيف يتمّ النظر الى قرار “اطلاق السراح” الصادر عن النائب العام التمييزي بحق قرار الإبقاء على توقيف بعض الموقوفين؟ أليس من شأن هكذا قرار أن يشكل مخالفة لمنطوق المادة 362 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، عوضاً عن جمع سلطة الادعاء بسلطة التحقيق؟؟؟؟
وحيث أن كل هذه المواد تشير الى دور وصلاحيات النائب العام لدى محكمة التمييز في ممارسة دوره كسلطة ادعاء وكسلطة تهدف الى تحريك واستعمال الحق العام بالمفهوم القانوني الذي يتناقض مع السعي لتحقيق منفعة المدعى عليهم عبر اطلاق سراحهم جميعهم. فمثل هذا القرار برأينا يهدف الى تجميد الحق العام عوضا عن تحريكه.
وما يؤكد على انعدام أي صلاحية للنيابة العامة التمييزية في اطلاق سراح جميع الموقوفين هو ما نصت عليه المادة 363 من قانون أصول المحاكمات الجزائية لجهة حق النائب العام الاطلاع على ملف الدعوى و” أن يبدي ما يراه من مطالعة أو طلب “. وكذلك ما ورد في المادة 346 التي نصت على أنه بعد اكتمال التحقيقات تبدي النيابة العامة التمييزية المطالعة في الأساس.
باختصار، لقد استعرضنا أعلاه لصلاحيات النائب العام لدى محكمة التمييز العامة وصلاحياته الخاصة أمام المجلس العدلي، وتحديدا أمام المحقق العدلي. في كل هذه المواد يتبين أن صلاحياته انحصرت في الادعاء، الدفاع عن الحق العام، تحريك الحق العام واستعمال الدعوى العامة، وله الصلاحيات الخاصة المذكورة في اطار سلطته كسلطة ادعاء. أما في ما عدا ذلك، لا يملك النائب العام التمييزي أي صلاحية أو اختصاص لإصدار قرار بإطلاق سراح المدعى عليهم الموقوفين.
وحيث أن النائب العام التمييزي استند في قراره الى المادة 9 بفقرتيها 1 و 3 من العهد الدولي الخاص، وقد نصت الفقرة الأولى على ما يلي:
“1. لكل فرد حق في الحرية وفى الأمان على شخصه. ولا يجوز توقيف أحد أو اعتقاله تعسفا. ولا يجوز حرمان أحد من حريته إلا لأسباب ينص عليها القانون وطبقا للإجراء المقرر فيه.“
وحيث أنه من البديهي القول أنّ هذه الفقرة لا تعطي أي صلاحية للنائب العام التمييزي باتخاذ القرار الذي صدر عنه، بل نصت على مبادئ تبناها الدستور اللبناني، وانما لا تتعارض مع صلاحيات المحقق بحيث نصت الفقرة المذكورة على أسباب نص عليها القانون وطبقا للاجراء المقرر فيه. وأن قرارات المحقق العدلي هي واقعة ضمن صلاحياته.
فيما الفقرة الثالثة قد نصت على ما حرفيته:
“يقدم الموقوف أو المعتقل بتهمة جزائية، سريعا، إلى أحد القضاة أو أحد الموظفين المخولين قانونا مباشرة وظائف قضائية، ويكون من حقه أن يحاكم خلال مهلة معقولة أو أن يفرج عنه. ولا يجوز أن يكون احتجاز الأشخاص الذين ينتظرون المحاكمة هو القاعدة العامة، ولكن من الجائز تعليق الإفراج عنهم على ضمانات لكفالة حضورهم المحاكمة في أية مرحلة أخرى من مراحل الإجراءات القضائية، ولكفالة تنفيذ الحكم عند الاقتضاء.“
وحيث أنّ الفقرة الثالثة أيضا لم تمنح النائب العام التمييزي أي صلاحيات، بحيث أصبح واضحا أن القرار الذي أصدره النائب العام التمييزي لم يجد مرتكزا له في القوانين الوضعية اللبنانية وفي قانون أصول المحاكمات اللبنانية، فحاول إضفاء شرعية على قراره بالارتكاز الى العهد الدولي الخاص.
في المحصّلة:
لا شك أن مسألة رد المحقق العدلي تعاني من نقص تشريعي تستدعي تدخل المشترع لتفسيرها بغية إيجاد حل للقضايا المستقبليّة، دون القضية الحاضرة، والا من شأن ذلك أن يشكّل مساساً بمبدأ فصل السلطات على اعتبار أنه لا يجوز سنّ قانون لحل مشكلة قانونية خاصة قيد النظر. وحالياً، تكون الأحكام النافذة بصورتها الضيقة وبالتفسير الحصري هي الواجبة التطبيق على هذه القضية بالذات. ويكون ما استند اليه المحقق العدلي لاستئناف تحقيقاته، الأقرب لتطبيق القانون تلك التحقيقات التي تتّجه نحو متابعة الدعوى للكشف عن هوية كلّ شخص مسؤول في هذه الجريمة المدويّة. وعلى هذا الأساس لا يكون قرار المحقق العدلي خاطئا، ولا يكون قد مارس صلاحيات النائب العام التمييزي أم نصّب نفسه مكانه، كما زعم الأخير، وانما على العكس، فالنائب العام التمييزي قد اغتصب صلاحيات ليست ممنوحة له قانونا، مما يرتب عليه مسؤوليات قانونية منصوص عنها في المادتين 376 من قانون العقوبات اللبناني التي نصت على أن كل موظف أقدم بقصد جلب المنفعة لنفسه أو لغيره أو بقصد الإضرار بالغير على فعل لم يخص بنص في القانون ينافي واجبات مهنته يعاقب بالحبس من شهر الى ثلاث سنوات وبالغرامة والمادة 377 من قانون العقوبات اللبناني التي نصت على إساءة استعمال السلطة أو النفوذ المستمدين من وظائفهم.
[1] يراجع في هذا الشأن: فيلومين نصر: أصول المحاكمات الجزائية، الطبعة الثالثة، 2002، منشورات صادر الحقوقية، ص 306.