ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
عباد الله أوصيكم وأوصي نفسي بوصية الإمام الرضا(ع) لأحد أصحابه: “أبلغ عنّي أوليائي السلام وقُل لهم: أن لا يجعلوا للشيطان على أنفسهم سبيلاً، ومُرهم بالصدق في الحديث، وأداء الأمانة، ومُرهم بالسكوت وترك الجدال فيما لا يعنيهم، وإقبال بعضهم على بعض، والمزاورة فإنّ ذلك قربةً إليّ، ولا يشغلوا أنفسهم بتمزيق بعضهم بعضاً”.
أيُّها الأحبّة: إننا أحوج ما نكون إلى هذه الوصايا والتي بها نعبر عن محبتنا لهذا الإمام العظيم ونكون من الموالين له، حيث لا تنال ولايته إلا بالعمل والورع.. نسأل الله أن يوفقنا لذلك لنكون أكثر وحدة وتماسكاً وقدرة على مواجهة تسويلات الشيطان وأنفسنا الأمارة بالسوء، وبذلك يمكننا أن نواجه التحديات ونحقق الأماني…
والبداية من المعاناة التي بتنا نشهدها في هذه الأيام مع بدء العام الدراسي، لدى الكثير من الأهالي غير القادرين على تأمين مقاعد دراسة لأولادهم في المدارس والجامعات بفعل الأقساط العالية التي ينؤون بثقلها ولارتفاع أسعار الكتب ومستلزمات الدراسة، فيما المدارس الرسمية التي تبقى هي الملاذ لهؤلاء لا تزال أبوابها موصدة، ويخشى أن يبقى الإضراب المستمر لمعلميها بعد عدم وفاء الحكومة بالتزاماتها تجاههم بتأمين مطالبهم المشروعة وحقهم في العيش الكريم…
والذي يضاف إلى معاناتهم على الصعيد المعيشي والحياتي، فيما الدولة المعنية بمواطنيها وحل أزماتهم لا تكتفي بعدم قيامها بالدور المطلوب منها في التخفيف من الأعباء على مواطنيها ومساعدتهم لتجاوز هذا الظرف الصعب بتشديد الرقابة على التجار الكبار، بل نراها تزيد من معاناتهم في رفع الرسوم والضرائب أضعافاً مضاعفة والذي سنشهده إن أقرت الموازنة في المجلس النيابي بحجة توفير مصادر مالية للخزينة…
ونحن هنا نجدد القول، إن من حق الدولة أن تفرض ضرائب ورسوم للقيام بمسؤوليتها، ولكن هذا لا ينبغي أن يحصل في هذه المرحلة الصعبة التي ينوء المواطنون بأعبائها الحالية، فكيف بالأعباء القادمة التي سوف تتضاعف.
ومن هنا، فإننا نأمل من ممثلي الشعب في المجلس النيابي بأن يكونوا صوتاً للناس وأمناء على مصالحهم، أن يدعوا الحكومة أن لا تستمر بالسياسة التي اعتادتها لسد نفقاتها بمد يدها إلى جيوب اللبنانيين الفارغة، بل أن تتجه إلى من أهدروا أموال الشعب وودائعهم لاسترجاع الأموال المنهوبة وتلك المهربة، وإلى علاج لمكامن الهدر والفساد وحسن استثمار أموال الدولة.
ومع الأسف يجري كل ذلك فيما تتوقف عجلة مؤسسات الدولة عن الدوران، ويستمر الشغور الرئاسي على حاله في انتظار وضوح مواقف الأفرقاء من الحوار الذي دعا إليه رئيس المجلس النيابي، والذي يبقى هو الطريق الأمثل للوصول إلى هذا الاستحقاق بعدما أصبح واضحاً أن لا قدرة لأي من الأفرقاء على حسم هذا الخيار لحسابه، أو أن يتنازل أحد لحساب الآخرين، فيما يبدو أن الطريق الذي دعا إليه الموفد الفرنسي ليس معبداً للحوار الذي وحتى لو حصل فهو لن يغني عن حوار داخلي، حيث لا حل خارجياً إلا بحوار داخلي…
ومن هنا، فإننا نعيد دعوة القوى السياسية الرافضة لهذا الحوار أو التي لم تبد رأياً إلى الاستفادة من هذه الفرصة المتاحة والتجاوب معها بدلاً من اعتماد الخطاب الموتر وعالي السقف والمستفز والذي يؤدي إلى نعي الحوار والإجهاز عليه، بعدما أصبح واضحاً أن البديل منه هو الفوضى واستمرار التآكل والتعطيل في مؤسسات الدولة وصولاً إلى السقوط في المستنقع الأمني أو إلى فتح الأبواب أمام دعوات الفدرلة والتقسيم.
وإذا كان هناك من لديه هواجس ومخاوف من عدم جدوى الحوار أو عدم جديته، فإن هذا لا يعني عدم الدخول فيه بل يدعو أكثر إلى المشاركة فيه، والحديث عن كل ذلك داخل جلساته، وإذا كان الحوار لم يجدِ في السابق بسبب بعض المواقف والظروف فلا يعني أن هذه المواقف والظروف هي نفسها الآن.
في هذه الأثناء تبرز أزمة النزوح السوري الجديد على الرغم من محاولات الجيش والقوى الأمنية منع ذلك، والذي يأتي بفعل الوضع الاقتصادي المتردي الذي يواجه هذا البلد والذي تسبب به الحصار الاقتصادي الذي يفرض عليه لتغيير خياراته وتحالفاته وعدم مد يد العون إليه من قبل أشقائه العرب، ما يدعو إلى ضرورة العمل الجاد لمواجهة هذا النزوح لمنع التبعات الخطيرة التي قد يحدثها وبعدما بات لبنان يضيق بالنزوح الموجود لديه، كما يدعو إلى تعزيز الرقابة على منافذ الحدود بالتعاون مع القوى الأمنية والتنسيق في ذلك مع الدولة السورية، في الوقت الذي ندعو للعمل لإيجاد حل يعيد لهذا البلد استقراره الأمني ويساعده لإيجاد حل لأزمته الاقتصادية الحادة.
ونبقى على الصعيد الأمني، لنحذر من عودة الاشتباكات داخل مخيم عين الحلوة والذي لم تقف تداعياته في داخل المخيم بل وصلت إلى محيطه، وهنا ندعو الحريصين على الساحة الفلسطينية إلى ضرورة العمل الجاد والسريع لإيقاف هذا النزيف الذي يزيد من معاناة الفلسطينيين داخل المخيم ويضر بالقضية الفلسطينية وقواها الحية، ويسيء إلى علاقة هذا المخيم مع محيطه مما لا يستفيد منه إلا العدو الصهيوني وأعداء الوطن والأمة. ومن المؤلم أن يحصل ذلك فيما الشعب الفلسطيني يقدم أغلى التضحيات في مواجهة الغطرسة الصهيونية وهجمات المستوطنين.
ونبقى أخيراً عند الحشد المليوني الذي شهدناه وشهده العالم في جموع الزائرين إلى مقام الإمام الحسين(ع) بكل تنوعاتهم المذهبية والدينية وبلدانهم، والذي عبروا من خلاله عن التزامهم بالأهداف التي لأجلها انطلق الإمام الحسين(ع) وبذل لأجلها دمه ودماء أصحابه وأهل بيته، وهي مواجهة الظلم والفساد وعبث المستأثرين بمقدرات الدول والشعوب والانحراف الأخلاقي والإيماني… والذي من الطبيعي أن يترك تأثيره في كل واقع يعود إليه الزائرون على ضوء ما عاشوه من القيم والمعاني التي جسدها الإمام والذين استشهدوا معه.
ونحن في هذا المجال، لا بد من أن ننوه بالجهود التي بذلت في العراق دولة وشعباً لتأمين أفضل الظروف للزائرين إن على صعيد الأمن أو من خلال ما أبدوه من ضيافة كريمة والتي عبروا عنها طوال طريق الزيارة، رغم كل الظروف الصعبة التي لا يزال يعاني منها العراق والتحديات التي لا تزال تواجهه على الصعيد الأمني والاقتصادي.