لعل الأزمة الخانقة التي يمر بها لبنان هي من بين الأفظع في العالم بالنظر إلى التعمّد الممنهج في إبقائها في حالة من المراوحة المترافقة وغياب المحاسبة الفعلية بشكل كلّي، في وقت لا يمكن وصف ما يتعرّض له الشعب اللبناني بشكل متمادٍ في ظلها سوى بالإبادة الجماعية ولو البطيئة والمقترنة بحال من الإذلال وامتهان الكرامات وإزهاق الحقوق حدّ اجتراح الموبقات بحق اللبنانيين ثم الرقص فوق جثثهم دون رادع أو حسيب. المسؤولية جماعية يتحملها القيّمون على مختلف مؤسسات وأجهزة الدولة بدءاً بالسلطة التشريعية إلى التنفيذية إلى القضائية، مروراً بحاكمية مصرف لبنان والمجلس المركزي ولجنة الرقابة على المصارف وهيئة التفتيش الخاصة وانتهاءً بجمعية المصارف والمصارف وأصحابها بصفتيهم المهنية والشخصية.
من المستغرب أنه حتى وبعد ٢٢ أب ٢٠٢٣ تاريخ إصدار النائب العام التمييزي غسان عويدات مطالعته حول تقرير “التدقيق الجنائي” التمهيدي لشركة ألفايزر أند مارسال لم يعلُ سوى صوت الضجيج المعتاد ليس إلا، رغم إشارته فيها إلى المسؤولية الجسيمة للجنة الرقابة على المصارف ووجوب التحقيق في تصرفاتها توصلاً إلى معرفة الحقيقة، ولكن المستغرب أكثر هو استدراج بعض من يدّعي الدفاع عن حقوق المودعين إلى التماهي وحالة الإنكار السائدة بين المرتكبين وصولاً إلى الانخراط في جو من التملق للجناة المسؤولين عن النتائج، متناسين ما أرسته الدعاوى القضائية على مدى أربع سنوات مضنية بحق هؤلاء الجناة من أدلة قاطعة أثبتت تواطؤهم الجرمي في أكثر من شكوى جزائية ضدهم بلغت مرحلة الاستجواب الفعلي بعد رد محكمة التمييز لطعونهم.
من أبرز هؤلاء رئيسة لجنة الرقابة على المصارف ميه دباغ المدّعى عليها، وأخرين منهم حاكم مصرف لبنان الأسبق رياض سلامة وأصحاب مصارف وصيارفة وشركات تدقيق حسابات مثل برايس ووتركوبرز هاوس (PwC)، أمام قضاء التحقيق في جبل لبنان بجرائم الإثراء غير المشروع وإساءة الائتمان والإهمال الوظيفي وسواها، علماً بأن الهيئة الاتهامية في جبل لبنان ثم محكمة التمييز الجزائية كانتا قد ردّتا طعون دباغ والمدّعى عليهم بقرارات رد دفوعهم الشكلية في أيلول وتشرين الثاني ٢٠٢١ ثم تشرين التاني ٢٠٢٢ ثم مرة أخرى في أيار ٢٠٢٣ في الشكويين العالقتين أمام قاضي التحقيق الأول، حيث كانت المدّعى عليها دباغ قد مثلت في جلسة الاستجواب في ١٦ كانون الأول ٢٠٢١ بعد اتهامها بجرم التلاعب بالليرة اللبنانية وبأسعار دعم السلع، قبل أن يجري نسفها آنذاك مع جلسات استجواب أخرى بواسطة طلبات ردّ القاضي، إحداها أرجئت إلى ١٣ تشرين الثاني ٢٠٢٣ بعد انسحاب محامي تحالف متحدون احتجاجاً.
وليس أعضاء المجلس المركزي ومفوضو الحكومة ونواب الحاكم السابقون، ومنهم الحاكم الحالي بالإنابة وسيم منصوري الذي لم يجد كلامه الإيجابي الذي نوّه التحالف به أي ترجمة فعلية على أرض الواقع بعد، بمنأى أو مسمع عن كل التواطؤ الحاصل لشطب الودائع وإزهاق حقوق المودعين وسائر اللبنانيين. فقد أرجأت قاضي التحقيق الأول في البقاع بالإنابة أماني سلامة الجلسة المقرر انعقادها غداً ٢١ أيلول في دعوى المودعين ومحاميهم من تحالف متحدون و”رواد العدالة” ضد كل هؤلاء والمسجلة برقم ٢٠٢٢/٩٢ إلى ٢٨ من الجاري وذلك لاستكمال إجراءات التبليغ.
في المحصلة أين المحاسبة، أو الحد الأدنى منها على الأقل؟ لمَ لم يتحرّك القضاء بعد في أية إجراءات احترازية لحفظ حقوق المودعين على الأقل؟ لمَ لم نرَ أي بصيص لمحاسبة قد طال انتظارها كثيراً، لا على يد القضاء ولا على يد الحاكم بالإنابة منصوري الذي ردّد أمام محامي التحالف، “أملك حق الرقابة الملزمة على المصارف” وعاد وكرّر كلمة “الملزمة”، على الأقل؟ لمَ لم يُعلن توقّف عدد من المصارف المرتكبة أو المتعثرة عن الدفع في خضم تهريبها المستمر والمتفاقم لأموال المودعين لا بل التمادي في تبييضها وتحويل لبنان إلى البؤرة الأولى لتبييض الأموال في المنطقة على مرأى من الجميع، على الأقل؟ أيعقل أن يساهم أي أحد في تعويم المرتكبين والشركاء في أفظع الجرائم المالية في لبنان وفي إيهام المودعين بآمال كاذبة تقطيعاً للوقت ريثما يتمكّن أصحاب المصارف وأعوانهم من تهريب ونقل معظم الأصول والأموال من حسابات المصارف إلى حسابات أصحابها وعائلاتهم فيما المودعون يموتون ماية موتة كل يوم؟!