المقاومة الفلسطينية تفرض إرادتها
تقرير – سلوى علوان
ساعات طويلة انتظرها أهل بلدة البيرة بغرب الضفة الغربية حتى وصول الحافلة الخاصة بنقل الأسرى المحررين، الدفعة الثانية في ثاني أيام الهدنة المؤقتة بغزة، ترقب وانتظار وحنين وشوق وصبر طويل، لكن المقاومة الفلسطينية في النهاية فرضت إرادتها فخضع المحتل لشروطها.
مليون أسير فلسطيني تم اعتقالهم في سجون الاحتلال منذ عام 1967 أي أن لكل بيت في أنحاء فلسطين معتقل وربما أكثر؛ لذا كانت صفقة تبادل الأسرى نورًا وسط هذا الظلام الكثيف.
خلال الأسابيع القليلة الماضية استشهد أكثر من 15 ألف مواطن، بينهم 6150 طفلا، وأكثر من 4 آلاف امرأة، بالإضافة إلى أكثر من 36 ألف جريح، هؤلاء جميعهم دفعوا أرواحهم ثمنًا على طريق تحرير فلسطين.
بعد كل هذا الدمار الذي شاهدناه وعشناه منذ الثامن من أكتوبر الماضي وحتى قرار الهدنة بعد 48 يومًا من القتل والقصف والتهجير والإجرام الصهيوني بكل أشكاله تمت أخيرًا صفقة تبادل الأسرى بين الفلسطينيين وقوات الاحتلال الصهيوني. مر اليوم الأول في حالة من الترقب الشديد فجميعنا يعرف أن الاحتلال الصهيوني لا يلتزم بعهد أو وعد، وهو ما ظهر بالفعل في اليوم التالي للصفقة حيث خالف العدو معظم بنود الاتفاق الذي أبرمه مع المقاومة برعاية مصرية أمريكية قطرية، مما أدى إلى تأخر موعد تسليم الأسرى والمحتجزين حتى كادت الهدنة تفشل إلا أن سلطة الاحتلال رضخت وخضعت لشروط المقاومة ووافقت عليها لتبدأ إجراءات تنفيذ الصفقة بعد منتصف ليلة السبت وفي الساعات الأولى من صبيحة يوم الأحد قبيل مثول الجريدة للطبع بوقت قليل.
تلقى أهالى الفلسطينيين المحررين تهديدات عديدة من قوات المحتل إذا احتفلوا بالإفراج عن أسراهم فسوف يتم إعادة اعتقالهم ورغم هذا احتشد الآلاف على طول الطريق ببلدة بيتونيا بالضفة الغربية لاستقبال المحررين، ورفعت الأعلام لفلسطين وللمقاومة الفلسطينية التي هتف الجميع باسمها داعين لها بالنصر، حمل المتظاهرون الفتيان المحررين فوق الأكتاف ولم تغلبهم فرحتهم بالتحرير حيث لم ينسوا الهتاف باسم الشهداء والدعاء لهم بالرحمة ولذويهم بالصبر وللجرحى بالشفاء بينما ارتفعت أصوات الغناء من أجل التحرير، المقاومة، ومن أجل فلسطين..
يا لحلاوة النصر!
ففي اليوم الأول تم الإفراج عن 42 أسيرة وطفل فلسطيني كانوا محتجزين في سجون الاحتلال حتى جاءت صفقة اليوم التالي والمفترض يفرج فيه عن ست أسيرات وثلاثة وثلاثين طفلا داخل سجون الاحتلال مقابل ثلاثة عشر محتجزًا لدى فصائل المقاومة.
اقتحامات.. وتهديدات
اكتظ منزل إسراء جعابيص بالعشرات من المهنئين من الأهل والجيران والصحفيين احتفاءً بتحريرتلك المرأة التي رصدت الفضائيات إلى أي مدى قوتها أمام ضعف هذا العدو الهش المتعجرف، حيث اقتحمت أعداد كبيرة من قواته منزل عائلة إسراء وأجبروا أهلها على تغيير المنزل الذي اجتمعت فيه العائلة لاستقبال ابنتها التي غابت لـ 9 سنوات في المعتقل وكان من المقرر أن تقضي ثمانية أعوام أخرى، وبالفعل أُجبرت العائلة على الذهاب لمنزل أحد أفرادها فوق جبل، الوصول إليه عبر طريق متعرج يصعب الوصول إليه وتم تحذير أسرتها من القيام بأية مظاهر للاحتفال ورغم هذا اجتمع الكثيرون لاستقبال إسراء.
إسراء جعابيص، لديها ابن وحيد اسمه معتصم لم يمكنه الاحتلال من لقاء أمه طوال تسعة أعوام إلا من وراء حاجز زجاجي في الزيارة التي يتم إلغاؤها في كثير من الأحيان.
بدأت قضية إسراء حينما تعطلت سيارتها في الطريق وتوقفت وفوجئت بقوات الاحتلال تلاحقها بوابل من النيران حتى انفجرت سيارتها فاشتعلت فيها النيران إثر وجود أنبوبة بوتاجاز كانت تحملها في طريقها لبيتها، احترقت السيارة واحترق معها جسد إسراء وبعد الحادث كانت النيران نالت 60% من جسدها وتركت بلا علاج بعد أن اعتقلتها سلطات الاحتلال.
ذات يوم ذهب معتصم إلى زيارتها بالمعتقل بصحبة خالته بعد أن رفضت قوات الاحتلال السماح لهما بزيارتها لأكثر من مرة بلا مبررات، حمل معتصم شوقه وحكاياته لأمه وانتظر كثيرًا تلك اللحظة التي يلقاها ويخبرها بأوجاعه في غيابها، وبعد أن تكبد معاناة الطريق إلى السجن فوجئ برفض الزيارة بحجة أنه لا يحمل بطاقة تحقيق هوية، ولم يخبره الاحتلال كيف تستخرج له بطاقة تحقيق هوية وهو لم يتجاوز الثمانية أعوام بعد.
حمل معتصم خيبة أمله وأوجاع شوقه لأمه وانتظر خارج أسوار السجن وحده حتى تنتهي خالته من زيارة شقيقتها، مرت أعوام سبعة على هذه الواقعة فقد صار عمر معتصم الآن خمسة عشر عامًا ولم ينسَ ما حدث ولا سنوات حرمانه من أمه لكنه الآن احتضنها لأول مرة منذ تسعة أعوام كاملة.
تشير إسراء إلى أن هناك الكثير من الأسيرات اللاتي مازلن يقبعن في سجون الاحتلال يتعرضن لأقسى أنواع التعذيب والتنكيل والقهر، لا يملكن غير الثقة في الله والصبر وبعض من الأمل في الحرية التي حتمًا ستأتي يومًا ما لتخرجهن من هذا الظلام.
يقول الشيخ أبو جميل والد الأسيرة المحررة إسراء جعابيص: أبعث برسالة شكر وامتنان لكل الإعلاميين مقروءًا ومسموعًا ومرئيا، فجميعهم ساندوا قضية الأسرى، ابني وبنتي أحبهم لكنهم ليسوا والله أبدى من أهل غزة الذين صاروا أيقونة حل القضية الفلسطينية بكل ما قدموه من تضحيات بأرواحهم ودمائهم وقد استطاعوا أن يسطروا بطولاتهم في التاريخ على طريق تحرير القدس.
شروق الدويات.. عرسنا مؤجل حتى تحرير الوطن
عاشت في مدينة القدس المحتلة، وعانت مثل الكثير من الفلسطينيات اللاتي لازلن يقاومن احتلال الأرض مهما دفعن من ثمن، تقول عن شعورها بعد الإفراج عنها: لحظات فرحة كبيرة ممزوجة بالألم كأني في حلم، أرى أهلي وجيراني الحمد لله بهذا الفرح، لكنه فرح منقوص بسبب ما جرى لأهلنا في غزة، إن فرحتنا بالتحرر من سجون العدو هو عرس وطني مؤجل لحين انتصار غزة.
ما جرى خلال هذه الأيام الثمانية والأربعين لم نعرف عنه شيئا فقد منعوا عنا كل شيء في السجن حتى من أفرج عنهم في الدفعة الأولى لتبادل الأسرى لم يخبرنا أحد إلى أين يأخذونهم من الزنازين، كانوا يقتحمون الحجز وينادون أسماء الأسيرات ثم يقومون بتقييدهن وسحبهن خارج الزنزانة دون أن يخبرهن أحد إلى أين يذهبن بهن، فكنا نظن أنهم يأخذون الأسيرات للتنكيل بهن كما اعتادوا أن يفعلوا معنا خاصةً بعد يوم السابع من أكتوبر بعد عملية طوفان الأقصى حيث مارسوا ضدنا الكثير من الضغط النفسي والتعذيب والتنكيل.
حينما علمت بالإفراج عني لم أصدق الخبر إلا حينما دخلت إلى بلدتي وارتميت في حضن أهلي، هي فرحة لا توصف فلا يشعر بقيمة الحرية إلا من فقدها، لكنها فرحة منقوصة فهناك غصة في القلب نتيجة ما جرى في غزة.
السجن صعب جدًا فقد أمضيت فيه ثماني سنوات حيث ألقي القبض علي فانقطع مشواري الدراسي لكني سأكمل تعليمي وما حدث خلق داخلي تحديا كبيرا ولكنها بداية وليست النهاية، هذا ما تعلمته وكنا دائمًا نحاول أن نعلمه للفتيات الصغيرات لنرفع معنويات بعضنا البعض ونصبر بعضنا البعض أمام الحملات الشرسة التي تقوم بها قوات الاحتلال بحق الأسرى والأسيرات، فضلا عن المضايقات التي كانت ترتكب بحقنا، حيث تكتظ الزنازين بأعداد تفوق المساحة المتاحة بكثير، فالمكان الذي يستوعب ثمانية أشخاص يوضع فيه أكثر من ستة عشر شخصًا جميعهم في غرفة صغيرة جدًا وقد منعونا من الخروج 48 يومًا كاملة جردونا خلالها من كل ما لدينا من ملابس وغطاء وكتب وغيرها بينما تعرضنا للسباب والضرب والتعذيب، إلا أننا صامدات اتفقنا على أنه لا شيء يكسرنا.
تضيف شروق: أخبرنا الاحتلال أنه ممنوع علينا أية مظاهر فرح أو أي أنشطة لكل المحررين وأخبرونا أننا لو فعلنا سيتم إعادة اعتقالنا.
خرجت من سجني لكن لديّ غصة في القلب لمن تركتهن من أسيرات لم يعتقلن على شيء سوى “بوستات” على مواقع التواصل الاجتماعي تحدثن فيها عن فلسطين أو صورة نشرت على صفحاتهن لمشهد قمع أو حتى للعلم الفلسطيني، هن لم يفعلن شيئًا يستحق الأسر، أتمنى أن يتم تحريرهن فكأني تركت قطعة مني بالداخل أمهات وسيدات مسنات وفتيات صغيرات أعمارهن تتراوح بين 12 و15 سنة يتم التعامل معهن كأنهن سيدات كبيرات تسلب منهن طفولتهن، أدعو الله أن يعجل بتحريرهن.
أما عن أهل غزة فأقول لهم: صبرًا صبرًا فما النصر إلا صبر ساعة.
نورهان عواد.. عند حاجز قلنديا وتحت ضوء خافت ووسط هدوء شديد حيث لا أحد في الطريق غير شخص واحد فقط هو قريب نورهان الذي هرول باتجاهها يصرخ «حمدا لله على السلامة يا نورهان» فأسرعت تجري باتجاهه وارتمت في حضنه وهي تبكي.
كان المشهد بسيطًا جدًا خاليًا من أية مظاهر للاستقبال سوى شوق نورهان وقريبها للحظة اللقاء هذه بعد معاناة طويلة عاشتها الأسيرة المحررة خلف قضبان سجون العدو لتخرج أخيرًا في صفقة تبادل الأسرى فتعود لترى النور، ويبدو أن أسرة نورهان استطاعت السيطرة على أمر الاحتفال بها نزولا على تهديدات قوات الاحتلال.
ميسون الجبالي.. أقدم أسيرة لدى الاحتلال
كانت ميسون معتقلة لدى قوات الاحتلال وتنقلت في محبسها ما بين سجن الدمور وسجن وادي عوفر حتى خرجت للحياة. تحكي ميسون عن الأوضاع داخل السجون الاسرائيلية فتصفها بأنها شديدة القسوة، وأيدت ما قالته الأسيرات المحررات عما يتعرضن له من تعذيب وتنكيل داخل سجون العدو، وأنهن يحرمن من كل شيء حتى الطعام والشراب، وحينما يعطيهم الاحتلال طعامًا فهم يوزعون طعامًا يكفي عشرة أشخاص فقط على ثمانين أسيرة، وأنهم جردوهم من الغطاء والملابس فكانت الأسيرات ترتعدن من شدة البرد على مدار أكثر من ثمانية أعوام قضتها ميسون في السجن عانت مرارة التعذيب وسوء المعاملة. تقول ميسون: لم نكن نحصل على شيء إلا بالإضراب عن الطعام، أسرى وأسيرات، جميعنا يتعرض للتعذيب والضرب، فحتى نحصل على معجون وفرشاة أسنان لا بد أن نضرب عن الطعام، وحتى نحصل على كتاب أو غطاء لا بد أن نضرب عن الطعام، وهو الأمر الذي أودى بحياة عدد من الأسرى منهم الشيخ خضر عدنان الذي دفع حياته ثمنًا للحصول على بعض أهم احتياجاتنا، فضلاً عن إصابة الكثير من الأسرى بالأمراض جراء هذه المعاملة.
وتؤكد ميسون أنها رغم انتظارها طويلاً لهذه اللحظة التي تجد نفسها بين أحضان أمها وأهلها إلا أنها لا تستطيع أن تفرح بينما غزة حزينة وأهلها تعرضوا ولا يزالون لكل هذه المعاناة والألم.
المقاومة.. عاش الرجال
على الجانب الآخر من صفقة تبادل الأسرى ظهر رجال المقاومة الفلسطينية يقومون بتسليم المحتجزين إلى الصليب الأحمر، صور تؤكد نبل رجالنا وحسن خلقهم ومعاملتهم للأسرى، هذا الأمر الذي دعا سلطة الاحتلال لمنع المحتجزين العائدين من إجراء أية لقاءات صحفية أو مقابلات إعلامية حتى لا يدرك العالم الفرق الشاسع ما بين صاحب الدين والخلق وبين من لا خلق ولا شرف له من قتلة الأطفال ومجرمي الحرب.