في ظلال طوفان الأقصى “79”
أجيالٌ لن تَنسَى وقرونٌ لن تُنْسِيَ وجرائمٌ لن تُنْسَى
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
ما ارتكبه العدو الإسرائيلي ومعه الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤهم الغربيون، ضد الشعب الفلسطيني عامةً وفي قطاع غزة خاصة، خلال الشهور التسعة الماضية، التي شهد العالم كله خلالها على وحشية الاحتلال وعدوانه، ودمويته وساديته، وعرفوا ممارساته، وأدركوا سياساته العنصرية، التي كشفت عن صورته الحقيقية البشعة، التي رفضتها الشعوب، وتظاهرت ضدها الأمم، ونظمت ضدها مسيرات واحتجاجات وفعاليات دولية، شاركت فيها الجامعات والمؤسسات العلمية، في حراكٍ تضامنيٍ أمميٍ لم يشهد مثله العالم، مما سيكون له أبلغ الأثر في السياسات الدولية والانتخابات البرلمانية والرئاسية للدول الكبرى في المستقبل القريب.
ما ارتكبوه معاً ضد الشعب الفلسطيني بشهادة العالم الحر والإنسانية الصادقة، يفوق آلاف المرات ما ارتكبوه من مجازر ومذابح وجرائم وعمليات إبادةٍ جماعيةٍ منظمة، وممارساتٍ عنصريةٍ مقيتةٍ، خلال العقود الثمانية الماضية، رغم قسوتها وشدتها، وعنفها وتطرفها، وآثارها العميقة، ونتائجها المأساوية، وما خلفته من شتاتٍ ولجوءٍ وتشريدٍ وضياعٍ وقتلٍ وحصارٍ ودمارٍ وخرابٍ، بدءً من سنوات ما قبل النكبة وضياع الأرض الفلسطينية على مراحل، مروراً بالنكسة الصدمة، الفاجعة المؤلمة، وحملات قمع الانتفاضات الشعبية الفلسطينية، وإعادة اجتياح الضفة الغربية، وعمليات السور الواقي وكاسر الأمواج وجز العشب وغيرها، وصولاً إلى يوم السابع من أكتوبر وعمليات طوفان الأقصى المجيدة.
ربما يظن العدو الإسرائيلي ومن قاتل معه وبالسلاح زوده، ومن أيده وسانده وصدق روايته، أنهم بما ارتكبوا من جرائم، وما نفذوا من مجازر، وما حققوا من أرقامٍ قياسيةٍ في القتل والخراب والدمار، استطاعوا أن يكووا الوعي الفلسطيني، وتمكنوا من استهداف عقله وتغيير تفكيره، ودفعوه نحو تغيير قناعاته واستبدال مفاهيمه، وأجبروه على القبول بالواقع والتسليم بالجديد الذي تفرضه القوة، وقد أظهر العدو خلال حربه على غزة، وعدوانه المستمر في القدس والضفة الغربية، غاية قوته وأقسى جبروته، واستخدم أكثر الأسلحة فتكاً وتدميراً، ظناً منه أنه يستطيع من خلال القوة المفرطة والمزيد من القوة، تحقيق ما عجز عن تحقيقه بالقوة السابقة.
ما يجب أن يعلمه العدو ويدركه، وهو نفس ما نطق به بعض مسؤوليه، وكشف عنه الكثير من مفكريه، وحذر منه كبار الضباط العسكريين والأمنيين المتقاعدين، ومعهم عدد غير قليل من الاستراتيجيين الإسرائيليين والدوليين، أن حربه على غزة لن تنسي الفلسطينيين حقوقهم، ولن تفت في عضدهم، ولن توهن عزمهم، ولن تدفعهم نحو اليأس والقنوط، والتفريط والتخلي، ولن تنتج جيلاً فلسطينياً متصالحاً معهم، معترفاً بهم، متفهماً لهم، وراضياً عنهم، وخاضعاً لإرادتهم، وخادماً لسياستهم.
فقد أسست الحربُ الإسرائيلية الظالمة بما لا يدع مجالاً للشك، قواعد متينة وأسس عميقة لأجيالٍ فلسطينية وعربية قادمة، أكثر إصراراً وثباتاً على الحق الوطني الفلسطيني في أرضهم ووطنهم ومقدساتهم وكامل حقوقهم، وستكون الأجيال اللاحقة أكثر تمسكاً بحقوقها من الأجيال التي سبقت، وأكثر عناداً وأشد مراساً، وسيكون لديها وسائلها الجديدة، وأدواتها المبتكرة، وطرقها الخاصة في استعادة الحق وتحرير الأرض، وقد أثبتت حوادث الزمان وتجارب الشتات واللجوء أن شيئاً لن ينسي الفلسطينيين حقوقهم، وقد جاء الدم المهراق والمجازر البشعة، وعمليات الإبادة الجماعية القاسية، لتعزز هذه المفاهيم والمعاني وتبني عليها وتراكم فوقها.
وسيدرك العدو الصهيوني، الذي لن يبقى إن شاء الله ولن يدوم لسنواتٍ أخرى قادمة، إذ أزف زمان سقوطه وحلت نهايته وخاتمته، واقتربت الساعة التي يتفكك فيها ويندثر، وإنما سيعلم مشغلوه وصانعوه، وزارعوه ومساندوه، أن هذه الحرب قد غرست في الوعي الفلسطيني والعربي والإسلامي لمئات السنوات القادمة، العداء المطلق للغربي المستعمر، وللولايات المتحدة الأمريكية التي كان لها الدور الأكبر في تنظيم هذه الحرب وإدارتها، وسيعلمون يقيناً أنهم أخطأوا وأجرموا، وارتكبوا في حق الأجيال الفلسطينية ومستقبلها جرائم يصعب نسيانها، ويستحيل تجاوزها والعفو عنها، مهما تقادم الزمن، وتوالت الأيام، وتتابعت الأجيال وتتدافعت.
هذه الحرب الملعونة الظالمة يصعب نسيانها، ولا يمكن للزمن مهما طال أن يطويها، ولا تستطيع الأجيال القادمة كلها ولو بعد مئات السنوات، نسل الشهداء، وأبناء الثكالى والمفوجعات، ومن بقي حياً تحت الركام، ومن انتشل من تحت الأنقاض، ومن نجا من القصف والدمار، وغيرهم ممن تركت الحرب على أجسادهم آثاراً باقية، أن ينسوا ما فعل بهم العدو الإسرائيلي وحلفاؤه، وما خلف وراءه سلاحهم وأدوات قتلهم.
الفلسطينيون هم كما أجدادهم العرب والمسلمين، الذين ذاقوا المر وتجرعوا الهوان من التتار المغول ومن الصليبيين والفرنجة، ما نسوا أرضهم، ولا تخلوا عن حقوقهم، ولا استسلموا لأعدائهم، ولا خضعت رقابهم لسيفه، ولا لانت نفوسهم لحكمه، بل جاءت من بعدهم أجيالٌ حفظت حقوقهم، ونظمت صفوفها لأجلهم، وخاضت الحروب انتقاماً لهم، وثأراً لشهدائهم، فكانت حطين التي لا ننساها، وعين جالوت التي نتغنى بها، وسيكون لهما ثالثة قاصمة لعدونا، وخاتمةً لأحزاننا، ونهاية لسني عذاباتنا، فلا يفرح العدو بما أجرم، وليتهيأ لما هو أعظم، ووعداً أننا سنثأر، فهذا حقٌ لا يموت، وأمةٌ لا تنسى، وجرائمٌ لا تطوى.