نتساريم وفيلادلفيا في الاستراتيجيا الإسرائيلية جولانٌ جديدةٌ وغورٌ آخرٌ
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
آخر الأوراق التي أخرجها الساحر الصهيوني الكذاب بنيامين نتنياهو من جيبه، لإفشال المفاوضات، وعرقلة المحادثات، وتعقيد جهود الوسطاء، من أجل استمرار الحرب ومواصلة العدوان، وعدم التوصل إلى أي صيغةٍ أو اتفاق من شأنه وضع حدٍ لمغامراته الشخصية، ورهاناته الخاصة للخروج من مآزقه، والنجاة بنفسه، واستنقاذ ماضيه والحفاظ على مستقبله، وتحقيق أهدافه التي يحلم بها ويتمنى انجازها، ويرى أنها أهدافٌ صهيونية، تخدم الشعب اليهودي والدولة العبرية، وتحافظ على كيانهم وتؤمن في المستقبل وجودهم، وتحول دون تعرضهم لتهديداتٍ وجودية تشبه طوفان الأقصى أو تكون أكثر خطراً منه.
إصراره على التمسك بمحوري فيلادلفيا أقصى جنوب قطاع غزة، ونتساريم التي تتوسطه وتشطره إلى شطرين، حيث أبدى رفضه الانسحاب منهما والتخلي عنهما، وكلف فريقه التفاوضي الذي قلص صلاحياته وقيدها، بالتمسك بهما، وعدم إبداء أي ليونةٍ بشأنهما، وكان جيشه قد باشر التجهيز فيهما للبقاء، وبناء التحصينات ونقل الآليات والمعدات اللازمة لمباشرة العمل فيها، وتنفيذ المهام التي يظنون أنها ستحقق أمنهم، وستحمي كيانهم، وستحول دون ترميم وتنامي قوة حماس، أو إعادة تنظيم صفوفها واستعادة ما خسرته خلال الحرب، التي أثرت كثيراً “بزعمهم” على تجهيزاتها وبنيتها التنظيمية، وأنفاقها وتسليحها وقدراتها القتالية، ونجحت في تقطيع مناطقها وصعوبة الوصل أو التواصل بينها.
لا يخفى على أحد أهمية هاتين المنطقتين بالنسبة للفلسطينيين عموماً وأهل غزة خصوصاً، فمحور فيلادلفيا يربط القطاع بمصر، ويحده معها غرباً، ويعتبر شريان الحياة الرئيس بالنسبة لهم، الذين يربطهم بالعالم من خلال معبر رفح المخصص لتنقل الأفراد، ومعبر صلاح الدين المعد لدخول الشاحنات التجارية، وقوافل المؤن والمساعدات الغذائية.
فقدان السيطرة عليه، وخضوعه بالكامل للسيطرة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، وغياب السيادة المصرية والفلسطينية عنه، يعني أن القطاع وأهله سيبقى رهينة العدو وحبيس سياساته، يحاصره متى شاء، ويفتح بواباته ومعابره متى يشاء، وبالقدر الذي يريد، ويخضع كل ما يدخل إليه لشروطه وضوابطه، ويقوم بأعمال التفتيش والرقابة والمنع والمصادرة، دون أي سلطةٍ تمنعه، أو قوةٍ تلزمه الخضوع للقانون، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية والحياتية الفلسطينية.
أما محور نتساريم الذي يتوسط القطاع ويقسمه إلى قسمين، شمالي وجنوبي، ويمتد من الحدود الشرقية للقطاع وصولاً إلى حدوده البحرية غربياً، قاطعاً شارعي الرشيد وصلاح الدين، وهما شريان القطاع وشارعاه الأسياسان الحيويان، على امتداد أكثر من أربعين كيلو متراً هو طول القطاع، حيث يكاد لا يستغني عنهما كل سكان قطاع غزة، الذين يتنقلون من شماله إلى جنوبه والعكس، ويستخدمانه لعبور الشاحنات الكبيرة والحافلات ووسائل النقل المختلفة، التي تعني الحياة واستمرارها، وبدونهما تجمد وتتوقف مظاهرها، وتتعطل كل مرافق العمل وسبل التواصل بين المواطنين.
يريد نتنياهو وحكومته التحكم في هاتين المنطقتين، ويدعى أنهما منطقتان أمنيتان استراتيجيتان، لا يمكنه الاستغناء عنهما، أو الانسحاب منهما، فالأولى تتحكم في المسافرين من وإلى القطاع، وتسيطر على الشريط الطولي بين القطاع ومصر، وهو الشريط الذي كان يزخر بالأنفاق وينشط بأعمال التهريب ونقل السلاح، ومكن حركة حماس والقوى الفلسطينية من بناء قدراتها العسكرية الضخمة، التي أهلتها لخوض معركة طوفان الأقصى، ومن قبل الصمود في كل الحروب الأخرى، ولهذا يرى أن السيطرة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية عليه ستحول دون العودة إلى الأوضاع التي كانت سائدة.
أما الثانية وهي الأخطر في وسط القطاع، فهي تشطره إلى قسمين، تصغر مساحته، وتخلق فيه كيانين منفصلين، وتضيق حركة أهله، وتخنقهم وتتحكم بهم، وتسهل على الجيش اعتقال من يريد منهم، أو منع انتقال من يشاء من الجنوب إلى الشمال والعكس، فضلاً عن حبس الشاحنات وحجزها، وتفتيشها ومصادرة محتوياتها، وفرض الحصار والتشدد في إجراءاته.
ويستطيع انطلاقاً منه تنفيذ عملياتٍ عسكرية يومية، والقيام بغاراتٍ ومدهماتٍ واعتقالات، والدخول إلى كل مناطق القطاع بسهولةٍ ويسرٍ، تماماً كما تفعل حكومته في الضفة الغربية، التي قسمتها إلى كانتونات صغيرة، ومعازل محاصرة، وقطعتها بالشوارع والطرقات والمستوطنات والمعابر والحواجز ومراكز الجيش وغيره.
هذه السيطرة من شأنها تعطيل أي نشاطٍ مقاومٍ، وإحباط أي عمليةٍ بسهولةٍ، ومنع بناء شبكاتٍ وخلايا عسكرية وتنظيمية وتفكيك بناها، فضلاً عن أن التواجد الإسرائيلي في هذا المحور وبواباته ومعابره الأمنية، سيتيح للمخابرات الإسرائيلية فرصة اختراق الفلسطينيين، وبناء شبكات تجسس، وربط العملاء وتجنيدهم، وتنسيق عملهم وتوجيههم.
كأن الإسرائيليين يكررون أنفسهم من جديد، ويجترون نفس المبررات التي استخدموها لتبرير ضم هضبة الجولان السورية المحتلة، باعتبار أنها هضبة استراتيجية مهمة، وأن الاستغناء عنها والانسحاب منها سيعرض أمنهم للخطر ووجودهم للزوال، ونجحوا في إقناع الإدارة الأمريكية والعديد من الدول الأوروبية بصوابية موقفهم، ووجاهة مبرراتهم، وصحة مخاوفهم، فسكتوا عن إجراء حكومتهم، وقبلوا بموقفها، الذي أصبح مع مرور الزمن وكأنه حق طبيعي مشروعٌ لهم.
وهو الأمر نفسه الذي تعلن عنه الحكومات الإسرائيلية بشأن غور الأردن، الذي صنفوه “ج” ضمن اتفاقية أوسلو للسلام، تمهيداً لضمه وبسط السيادة الإسرائيلية الكاملة عليه، باعتبار أنه منطقة حدودية تشكل خاصرة الكيان الأمنية الشرقية الضعيفة مع الأردن، ولهذا قاموا بتفريغه من السكان وطردهم، والسيطرة على أرضهم، والتضييق على من بقي منهم وحرمانهم، وزرعوا فيه عشرات المستوطنات والثكنات ومعسكرات الجيش وحقول التدريب والمطارات العسكرية، تمهيداً لبسط السيادة الكاملة عليه، ومنع أي مطالبة فلسطينية به في المستقبل، وفي أي مفاوضات حل نهائي وإن كانت غير متوقعة.
تدرك المقاومة الفلسطينية المرامي والأهداف الإسرائيلية، وتعرف أبعاد ومخاطر الخضوع والقبول بمخططاتهم، وتعلم تماماً أنه لا يوجد معنى لكلمة “مؤقت” في قاموسهم، وأن أي تهاونٍ أو قبولٍ بطلباتهم أو استسلامٍ لشروطهم، يعني ضياع القطاع واحتلاله، وتشتيت أهله وطرد سكانه، وهو ما لن يكون أبداً، ما ولن يتحقق بإذن الله، بثبات هذا الشعب العظيم وصمود مقاومته الباسلة.